كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 10)
وَقَالَ لِي: قَدْ أَعْلَمْتُ السُّلْطَانَ خَبَرَكَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِكَ عِنْدَهُ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي صَدْرِ إِيوَانٍ كَبِيرٍ، فَحِينَ تَوَسَّطْتُ صَحْنَ الدَّارِ قَامَ قَائِمًا، وَمَشَى إِلَى بَيْنِ يَدَيَّ، فَأَسْرَعْتُ السَّيْرَ فَلَقِيتُهُ فِي وَسَطِ الْإِيوَانِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ، فَمَنَعَنِي، وَاعْتَنَقَنِي، وَجَلَسَ وَأَجْلَسَنِي إِلَى جَانِبِهِ، وَقَالَ لِي: أَنْتَ تَخْدِمُ حُجْرَةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَخَذَ يَدِي، وَأَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِنَا وَعَيْشِنَا، وَصِفَةِ الْمَدِينَةِ، وَمِقْدَارِهَا، وَأَطَالَ الْحَدِيثَ مَعِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: لَوْلَا أَنَّنَا عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ هَذِهِ السَّاعَةِ لَمَا وَدَّعْتُكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نَعْبُرَ جَيْحُونَ إِلَى الْخَطَا، وَهَذَا طَرِيقٌ مُبَارَكٌ حَيْثُ رَأَيْنَا مَنْ يَخْدِمُ حُجْرَةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَدَّعَنِي وَأَرْسَلَ إِلَيَّ جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنَ النَّفَقَةِ، وَمَضَى، وَكَانَ مِنْهُ وَمِنَ الْخَطَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعَالَمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَرَدْنَا ذِكْرَ مَنَاقِبِهِ لَطَالَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ اسْتِيلَاءِ التَّتَرِ الْمُغَرِّبَةِ عَلَى مَازَنْدُرَانَ
لَمَّا أَيِسَ التَّتَرُ الْمُغَرِّبَةُ مِنْ إِدْرَاكِ خُوَارَزْم شَاهْ، عَادُوا فَقَصَدُوا بِلَادَ مَازَنْدُرَانَ فَمَلَكُوهَا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، مَعَ حَصَانَتِهَا وَصُعُوبَةِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا، وَامْتِنَاعِ قِلَاعِهَا، فَإِنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُمْتَنِعَةً قَدِيمَ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَلَكُوا بِلَادَ الْأَكَاسِرَةِ جَمِيعَهَا، مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى أَقَاصِي خُرَاسَانَ، بَقِيَتْ أَعْمَالُ مَازَنْدُرَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْخَرَاجُ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دُخُولِ الْبِلَادِ، إِلَى أَنْ مُلِكَتْ أَيَّامَ سُلَيْمَانِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ مَلَكُوهَا صَفْوًا عَفْوًا لِأَمَرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا مَلَكُوا بَلَدَ مَازَنْدُرَانَ قَتَلُوا، وَسَبَوْا، وَنَهَبُوا، وَأَحْرَقُوا الْبِلَادَ، وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَازَنْدُرَانَ سَلَكُوا نَحْوَ الرَّيِّ، فَرَأَوْا قِيَّ الطَّرِيقِ وَالِدَةَ خُوَارَزْم شَاهْ وَنِسَاءَهُ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَذَخَائِرَهُمُ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ وَالِدَةَ خُوَارَزْم شَاهْ لَمَّا سَمِعَتْ بِمَا جَرَى عَلَى وَلَدِهَا خَافَتْ، فَفَارَقَتْ خُوَارَزْمَ وَقَصَدَتْ نَحْوَ الرَّيِّ لِتَصِلَ إِلَى أَصْفَهَانَ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ تَمْتَنِعُ فِيهَا، فَصَادَفُوهَا فِي الطَّرِيقِ،
الصفحة 344
471