كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 10)
مِنْ حُدُودِ الصِّينِ لَا تَنْقَضِي عَلَيْهِمْ سَنَةٌ حَتَّى يَصِلَ بَعْضُهُمْ إِلَى بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَيُجَاوِزُوا الْعِرَاقَ مِنْ نَاحِيَةِ هَمَذَانَ، وَتَاللَّهِ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا، إِذَا بَعُدَ الْعَهْدُ، وَيَرَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ مَسْطُورَةً يُنْكِرُهَا، وَيَسْتَبْعِدُهَا، وَالْحَقُّ بِيَدِهِ، فَمَتَى اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ أَنَّنَا سَطَّرْنَا نَحْنُ، وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ التَّارِيخَ فِي أَزَمَانِنَا هَذِهِ فِي وَقْتٍ كُلُّ مَنْ فِيهِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ، اسْتَوَى فِي مَعْرِفَتِهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لِشُهْرَتِهَا، يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ مَنْ يَحْفَظُهُمْ وَيَحُوطُهُمْ، فَلَقَدْ دُفِعُوا مِنَ الْعَدُوِّ إِلَى عَظِيمٍ، وَمِنَ الْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَنْ لَا تَتَعَدَّى هِمَّتُهُ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ، وَلَمْ يَنَلِ الْمُسْلِمِينَ أَذًى وَشِدَّةٌ مُذْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مِثْلَ مَا دُفِعُوا إِلَيْهِ الْآنَ.
هَذَا الْعَدُوُّ الْكَافِرُ التَّتَرُ قَدْ وَطِئُوا بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَمَلَكُوهَا وَخَرَّبُوهَا، وَنَاهِيكَ بِهِ سَعَةَ بِلَادٍ، وَتَعَدَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْهُمُ النَّهْرَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَلَكُوهَا وَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِلَى الرَّيِّ وَبَلَدِ الْجَبَلِ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَقَدِ اتَّصَلُوا بِالْكَرَجِ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ.
وَالْعَدُوُّ الْآخَرُ الْفِرِنْجُ قَدْ ظَهَرُوا مِنْ بِلَادِهِمْ فِي أَقْصَى بِلَادِ الرُّومِ، بَيْنَ الْغَرْبِ وَالشَّمَالِ، وَوَصَلُوا إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكُوا مِثْلَ دِمْيَاطَ، وَأَقَامُوا فِيهَا، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِزْعَاجِهِمْ عَنْهَا، وَلَا إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا، وَبَاقِي دِيَارِ مِصْرَ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُلْطَانَهُمْ خُوَارَزْم شَاهْ مُحَمَّدًا قَدْ عُدِمَ لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةُ خَبَرِهِ، فَتَارَةً يُقَالُ مَاتَ عِنْدَ هَمَذَانَ وَأُخْفِي مَوْتُهُ، وَتَارَةً دَخَلَ أَطْرَافَ بِلَادِ فَارِسَ وَمَاتَ هُنَاكَ وَأُخْفِي مَوْتُهُ لِئَلَّا يَقْصِدَهَا التَّتَرُ فِي أَثَرِهِ، وَتَارَةً يُقَالُ عَادَ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَتُوُفِّيَ فِي جَزِيرَةٍ هُنَاكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدَ عُدِمَ، ثُمَّ صَحَّ مَوْتُهُ بِبَحْرِ طَبَرِسْتَانَ، وَهَذَا عَظِيمٌ، إِنَّ مِثْلَ خُرَاسَانَ وَعِرَاقِ الْعَجَمِ أَصْبَحَ سَائِبًا لَا مَانِعَ لَهُ، وَلَا سُلْطَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَالْعَدُوُّ يَجُوسُ الْبِلَادَ، يَأْخُذُ مَا أَرَادَ وَيَتْرُكُ مَا أَرَادَ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَى مَدِينَةٍ إِلَّا خَرَّبُوا كُلَّ مَا مَرُّوا عَلَيْهِ، وَأَحْرَقُوهُ، وَنَهَبُوهُ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لَهُمْ أَحْرَقُوهُ، فَكَانُوا يَجْمَعُونَ الْإِبْرَيْسَمَ تِلَالًا وَيُلْقُونَ فِيهِ النَّارَ. وَكَذَلِكَ غَيَرُهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ.
ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ مَرَاغَةَ
فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ مَلَكَ التَّتَرُ مَدِينَةَ مَرَاغَةَ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ.
الصفحة 347
471