كتاب الكامل في التاريخ (اسم الجزء: 10)
يَتْبَعُهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَرَوْا أَحَدًا يَطْلُبُهُمْ أَقَامُوا، وَأَقَامَ الْعَسْكَرُ الْإِسْلَامِيُّ عِنْدَ دَقُوقَا، فَلَمَّا لَمْ يَرَوُا الْعَدُوَّ يَقْصِدُهُمْ، وَلَا الْمَدَدَ يَأْتِيهِمْ، تَفَرَّقُوا، وَعَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ.
ذِكْرُ مُلْكِ التَّتَرِ هَمَذَانَ وَقَتْلِ أَهْلِهَا
لَمَّا تَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ الْإِسْلَامِيُّ عَادَ التَّتَرُ إِلَى هَمَذَانَ فَنَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا شِحْنَةٌ يَحْكُمُ فِيهَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ لِيَطْلُبَ مِنْ أَهْلِهَا مَالًا وَثِيَابًا، وَكَانُوا قَدْ اسْتَنْفَذُوا أَمْوَالَهُمْ فِي طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَانَ رَئِيسُ هَمَذَانَ شَرِيفًا عَلَوِيًّا، وَهُوَ مِنْ بَيْتِ رِئَاسَةٍ قَدِيمَةٍ لِهَذِهِ الْمَدِينَةِ، هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي أُمُورِ أَهْلِ الْبَلَدِ مَعَ التَّتَرِ، وَيُوصِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَجْمَعُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا طَلَبُوا الْآنَ مِنْهُمُ الْمَالَ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ هَمَذَانَ مَا يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَحَضَرُوا عِنْدَ الرَّئِيسِ وَمَعَهُ إِنْسَانٌ فَقِيهٌ قَدْ قَامَ فِي اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكُفَّارِ قِيَامًا مُرْضِيًا، فَقَالُوا لَهُمَا: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ قَدْ أَفْنَوْا أَمْوَالَنَا، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا مَا نُعْطِيهِمْ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنْ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَنَا، وَمَا يَفْعَلُهُ النَّائِبُ عَنْهُمْ بِنَا مِنَ الْهَوَانِ.
وَكَانُوا قَدْ جَعَلُوا بِهَمَذَانَ شِحْنَةً لَهُمْ يَحْكُمُ فِي أَهْلِهَا بِمَا يَخْتَارُهُ، فَقَالَ الشَّرِيفُ: إِذَا كُنَّا نَعْجِزُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا مُصَانَعَتُهُمْ بِالْأَمْوَالِ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنَ الْكُفَّارِ وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: أَنَا وَاحِدٌ مِنْكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ. فَأَشَارَ الْفَقِيهُ بِإِخْرَاجِ شِحْنَةِ التَّتَرِ مِنَ الْبَلَدِ وَالِامْتِنَاعِ فِيهِ، وَمُقَاتَلَةِ التَّتَرِ ; فَوَثَبَ الْعَامَّةُ عَلَى الشِّحْنَةِ فَقَتَلُوهُ وَامْتَنَعُوا فِي الْبَلَدِ، فَتَقَدَّمَ التَّتَرُ إِلَيْهِمْ وَحَصَرُوهُمْ، وَكَانَتِ الْأَقْوَاتُ مُتَعَذِّرَةً فِي تِلْكَ الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، لِخَرَابِهَا، وَقَتْلِ أَهْلِهَا، وَجَلَاءِ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الطَّعَامِ إِلَّا قَلِيلًا، وَأَمَّا التَّتَرُ فَلَا يُبَالُونَ بِعَدَمِ الْأَقْوَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا اللَّحْمَ، وَلَا تَأْكُلُ دَوَابُّهُمْ إِلَّا نَبَاتَ الْأَرْضِ، حَتَّى إِنَّهَا تَحْفِرُ بِحَوَافِرِهَا الْأَرْضَ عَنْ عُرُوقِ النَّبَاتِ فَتَأْكُلُهَا.
فَلَمَّا حَصَرُوا هَمَذَانَ قَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا وَالرَّئِيسُ وَالْفَقِيهُ فِي أَوَائِلِهِمْ، فَقُتِلَ مِنَ التَّتَرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجُرِحَ الْفَقِيهُ عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ، وَافْتَرَقُوا، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْغَدِ فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، وَقُتِلَ أَيْضًا مِنَ التَّتَرِ أَكْثَرُ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَجُرِحَ الْفَقِيهُ أَيْضًا عِدَّةَ جِرَاحَاتٍ وَهُوَ صَابِرٌ، وَأَرَادُوا أَيْضًا الْخُرُوجَ، الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَلَمْ يُطِقِ الْفَقِيهُ الرُّكُوبَ، وَطَلَبَ النَّاسُ الرَّئِيسَ الْعَلَوِيَّ فَلَمْ يَجِدُوهُ، كَانَ قَدْ هَرَبَ فِي سِرْبٍ صَنَعَهُ إِلَى
الصفحة 350
471