كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 10)

وَقَدْ جَعَلْتَنِي مِنْ خُزَيْمَةَ أُصْبُعَا أَيْ: ذَا مَسَافَةٍ مِقْدَارَ أُصْبُعٍ، أَوْ أَدْنى عَلَى تَقْدِيرِكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ «1» . إِلى عَبْدِهِ
: أَيْ إِلَى عَبْدِ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُلْبِسُ، كَقَوْلِهِ:
مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها «2» . مَا أَوْحى
: تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ قَبْلُ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ دَنا، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَيْ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ حِرَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّ الدُّنُوَّ يَسْتَنِدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَ الدُّنُوُّ إِلَى جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ دَنَا وَحْيُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَعَ جِبْرِيلَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَزْلَةً مُتَقَدِّمَةً. وَمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ قَبْلَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَدَنَا أَعَمُّ مِنْ تَدَلَّى، فَبَيَّنَ هَيْئَةَ الدُّنُوِّ كَيْفَ كَانَتْ قَابَ قَدْرٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ مِنْ طَرَفِ الْعُودِ إِلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْوَتَرِ إِلَى الْعُودِ فِي وَسَطِ الْقَوْسِ عِنْدَ الْمِقْبَضِ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْقَوْسِ، وَلَكِنْ قَدْرُ الذِّرَاعَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَوْسَ هُنَا ذِرَاعٌ تُقَاسُ بِهِ الْأَطْوَالُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ.
فَأَوْحى
: أَيِ اللَّهُ، إِلى عَبْدِهِ
: أَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِلى عَبْدِهِ
جِبْرِيلَ، مَا أَوْحى
: إِبْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالَّذِي عُرِفَ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَى، كَالْأَوَّلِ فِي الْإِبْهَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَوْحى
: أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ. مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ: أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا كَذَبَ مُخَفَّفًا، عَلَى مَعْنَى: لَمْ يَكْذِبْ قَلْبُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ الشَّيْءَ الَّذِي رَآهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ نَظَرًا، وَكَذَبَ يَتَعَدَّى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ: رَأَى محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهَ تَعَالَى بِفُؤَادِهِ.
وَقِيلَ: مَا رَأَى بِعَيْنِهِ لَمْ يُكَذِّبْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيمَا رَأَى.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رأسه
، وأبت
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 147. [.....]
(2) سورة فاطر: 35/ 45.

الصفحة 11