كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 10)

وقدِ اختلَفَ في هذينِ الوَجهينِ أصحابُ مالكٍ وأصحابُ أبي حَنِيفةَ وأصحابُ الشّافعيِّ، إلّا أنَّ جُمهُورَ أصحابِ الشّافعيِّ: أنَّهُ على التَّراخِي. وهُو تحصِيلُ مذهبِهِ.
وقال أبو العبّاسِ أحمدُ بن عُمرَ بن سُرَيج (¬١) محُتجًّا لقولِ الشّافعيِّ ومن تابَعهُ، على أنَّ الحجَّ ليسَ على الفَورِ عندَ الاستِطاعةِ، قال: وَجهُ الأمرِ في ذلك، أنّا وجدنا المُسلِمِينَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها، لا يُفسِّقُونَ من تأخَّرَ عامًا، أو عامينِ بعدَ بُلُوغِهِ، مع استِطاعتِهِ على الحجِّ، ولا يُسقِطُونَ شَهادتهُ، ولا يزعُمُونَ أنَّهُ قد تركَ أداءَ الحجِّ في وَقْتِهِ، وأنَّهُ ليسَ كتارِكِ الصَّلاةِ، حتّى خرجَ وَقتُها، فيكونُ قاضِيًا لها بعد خُرُوج وقتِها، ووجَدْنا هذا من شأنِهِم، ليسَ مِمّا يحدُثُ في عَصرٍ دُونَ عصرٍ، فعَلِمنا أنَّ ذلك مِيراثُ الخَلَفِ عنِ السَّلفِ، ووجَدْنا فرائضَ كثِيرةً سَبِيلُها كَسبِيلِ الحجِّ في ذلك، منها: قَضاءُ الصَّوم، والصَّلاةِ، فلم نَرهُم ضيَّقُوا على الحائضِ إذا طَهُرَتْ في قَضاءِ الصلاةِ في أوَّلِ وَقتِها، ولها أن تُؤَخِّرَهُ ما دامَ في وَقتِها سَعةٌ، ولا في قَضاءِ ما عَليها من الصَّوم، ولا على المُسافِرِ إذا انصرفَ من سَفرِهِ، وكلُّهُم لا يُؤمَنُ عليه هَجْمةُ الموتِ، وقالت عائشةُ: إنَّهُ ليكونُ عليَّ الصَّومُ من رمضانَ، فما أقْضِيهِ حتّى يدخُل شَعبانُ (¬٢).
فتبيَّنَ بذلك: أنَّ هذه أُمُورٌ لم يُضيِّقها المُسلِمُونَ، فبطلَ بذلك قولُ من شذَّ فضَيَّقها.
ثُمَّ نظَرْنا في أمرِ الحجِّ، إذا أخَّرهُ المرءُ المُدّةَ الطَّوِيلةَ، كَرجُلٍ تركَ أن يحُجَّ خمسِينَ سنةً، وهُو مُستطِيعٌ في ذلك كلِّهِ، فوجَدْنا ذلك مُسْتنكرًا، لا يأمُرُ بذلك
---------------
(¬١) في الأصل، ف ٣: "سريح". وفي م: "شريح". وكلاهما تصحيف، وهو أبو العباس، أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، القاضي الشافعي. انظر: سير أعلام النبلاء ١٤/ ٢٠١.
(¬٢) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ٤١٤ (٨٥٧).

الصفحة 204