كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

لِأَنَّ الْمَجْذُومَ يَغْتَمُّ وَيَكْرَهُ إِدْمَانَ الصَّحِيحِ نَظَرَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَكُونُ بِهِ دَاءٌ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ اه وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ احْتِمَالًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مَا سَمِعْتُ فِيهِ بِكَرَاهِيَةٍ وَمَا أَدْرِي مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ شَيْءٌ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ الصَّوَابُ عِنْدَنَا الْقَوْلُ بِمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ وَأَنْ لَا عَدْوَى وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُ نَفْسًا إِلَّا مَا كُتِبَ عَلَيْهَا وَأَمَّا دُنُوُّ عَلِيلٍ مِنْ صَحِيحٍ فَغَيْرُ مُوجِبٍ انْتِقَالَ الْعِلَّةِ لِلصَّحِيحِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِذِي صِحَّةٍ الدُّنُوُّ مِنْ صَاحِبِ الْعَاهَةِ الَّتِي يَكْرَهُهَا النَّاسُ لَا لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ بَلْ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ الدَّاءُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ دُنُوِّهُ مِنَ الْعَلِيلِ فَيَقَعُ فِيمَا أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَدْوَى قَالَ وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ مُعَارَضَةٌ لِأَكْلِهِ مَعَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْشَادِ أَحْيَانًا وَعَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ أُخْرَى وان كَانَ أَكثر الْأَوَامِر على الْإِلْزَام وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ أَحْيَانَا لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَرَامًا وَقَدْ سَلَكَ الطَّحَاوِيُّ فِي مَعَاني الْآثَار مَسْلَك بن خُزَيْمَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ فَأَوْرَدَ حَدِيثَ لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ثُمَّ قَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصِحَّ قَدْ يُصِيبُهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ فَيَقُولُ الَّذِي أَوْرَدَهُ لَوْ أَنِّي مَا أَوْرَدْتُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ شَيْءٌ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُورِدْهُ لَأَصَابَهُ لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى قَدَّرَهُ فَنَهَى عَنْ إِيرَادِهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ غَالِبًا مِنْ وُقُوعِهَا فِي قَلْبِ الْمَرْءِ ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ فَأَطْنَبَ وَجمع بَينهَا بِنَحْوِ مَا جمع بِهِ بن خُزَيْمَةَ وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى أَوْ مَخَافَةَ تَشْوِيشِ النُّفُوسِ وَتَأْثِيرِ الْأَوْهَامِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُذَامَ لَا يُعْدِي لَكِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا نُفْرَةً وَكَرَاهِيَةً لِمُخَالَطَتِهِ حَتَّى لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانٌ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَعَلَى مُجَالَسَتِهِ لَتَأَذَّتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ إِلَى مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَةٍ فَيَجْتَنِبُ طُرُقَ الْأَوْهَامِ وَيُبَاعِدُ أَسْبَابَ الْآلَامِ مَعَ أَنَّهُ يعْتَقد أَن لَا يُنَجِّي حَذَرٌ مِنْ قَدْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ الْأَسَدِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلشَّفَقَةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى أُمَّتَهُ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ خَيْرٌ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّ الرَّوَائِحَ تُحْدِثُ فِي الْأَبْدَانِ خَلَلًا فَكَانَ هَذَا وَجْهَ الْأَمْرِ بِالْمُجَانَبَةِ وَقَدْ أَكَلَ هُوَ مَعَ الْمَجْذُومِ فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِمُجَانَبَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لَمَا فَعَلَهُ قَالَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ بِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ الْمُخَاطَبِينَ وَفِعْلُهُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فَمَنْ فَعَلَ الْأَوَّلَ أَصَابَ السُّنَّةَ وَهِيَ أَثَرُ الْحِكْمَةِ وَمَنْ فَعَلَ الثَّانِي كَانَ أَقْوَى يَقِينًا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِمُقْتَضَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذن الله فَمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْيَقِينِ فَلَهُ أَنْ يُتَابِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهُ وَلَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ ضَعْفًا فَلْيَتْبَعْ أَمْرَهُ فِي الْفِرَارِ لِئَلَّا يَدْخُلَ بِفِعْلِهِ فِي إِلْقَاء نَفسه إِلَى التَّهْلُكَة فَالْحَاصِل أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الضَّرَرُ وَقَدْ أَبَاحَتِ الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْحَذَرَ مِنْهَا فَلَا يَنْبَغِي لِلضُّعَفَاءِ أَنْ يَقْرَبُوهَا وَأَمَّا أَصْحَابُ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّاسِ هُوَ الضَّعْفُ فَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْفِرَارِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَاسْتُدِلَّ بِالْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَيْنِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا وَجَدَهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَجَابَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسْخِ بِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَثَبَتَ الْفَسْخُ إِذَا حَدَثَ الْجُذَامُ وَلَا قَائِلَ بِهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ بَلْ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَاخْتُلِفَ فِي أَمَةِ الْأَجْذَمِ هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ إِذَا أَرَادَهَا

الصفحة 162