كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

الْحُمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ دُونَ بَعْضٍ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا أَوْجَهُ فَإِنَّ خِطَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا كَمَا قَالَ لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا فَقَوْلُهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ خَاصٌّ لِمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَعَلَى سَمْتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَا وَالَاهُمُ إِذْ كَانَ أَكْثَرُ الْحُمَّيَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْعَرْضِيَّةِ الْحَادِثَةِ عَنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ وَهَذِهِ يَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَاغْتِسَالًا لِأَنَّ الْحُمَّى حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ وَتَنْتَشِرُ مِنْهُ بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ وَالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ قِسْمَانِ عَرَضِيَّةٌ وَهِيَ الْحَادِثَةُ عَنْ وَرَمٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ إِصَابَةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ أَوِ الْقَيْظِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَرَضِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ وَتَكُونُ عَنْ مَادَّةٍ ثُمَّ مِنْهَا مَا يُسَخِّنُ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلُّقِهَا بِالرُّوحِ فَهِيَ حُمَّى يَوْمٍ لِأَنَّهَا تَقَعُ غَالِبًا فِي يَوْمٍ وَنِهَايَتُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ فَهِيَ حُمَّى دِقٍّ وَهِيَ أَخْطَرُهَا وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمِّيَتْ عَفَنِيَّةً وَهِيَ بِعَدَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَتَحْتَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّوْعَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهَا تَسْكُنُ بِالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَشُرْبِ الْمَاءِ الْمُبَرَّدِ بِالثَّلْجِ وَبِغَيْرِهِ وَلَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إِلَى عِلَاجٍ آخَرَ وَقَدْ قَالَ جَالِينُوسُ فِي كِتَابِ حِيلَةِ الْبُرْءِ لَوْ إِنَّ شَابًّا حَسَنَ اللَّحْمِ خَصِبَ الْبَدَنِ لَيْسَ فِي أَحْشَائِهِ وَرَمٌ اسْتَحَمَّ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ سَبَحَ فِيهِ وَقْتَ الْقَيْظِ عِنْد مُنْتَهى الْحمى لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ إِذَا كَانَتِ الْقُوَى قَوِيَّةً وَالْحُمَّى حَادَّةً وَالنُّضْجُ بَيِّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ فَإِنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ شُرْبُهُ فَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خَصِبَ الْبَدَنِ وَالزَّمَانِ حَارًّا وَكَانَ مُعْتَادًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ اغْتِسَالًا فَلْيُؤَذَّنْ لَهُ فِيهِ وَقد نزل بن الْقَيِّمِ حَدِيثَ ثَوْبَانَ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ فَقَالَ هَذِهِ الصِّفَةُ تَنْفَعُ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فِي الْحُمَّى الْعَرَضِيَّةِ أَوِ الْغِبِّ الْخَالِصَةِ الَّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الرَّدِيئَةِ وَالْمُرَادُ الْفَاسِدَةُ فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّمْسِ وَوُفُورِ الْقوي فِي ذَلِك الْوَقْت لكَونه عقب النّوم وَالسُّكُونِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ قَالَ وَالْأَيَّامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا بِحَرَارَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ غَالِبًا وَلَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالُوا وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ اسْتِعْمَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ الْبَارِدَ فِي عِلَّتِهِ كَمَا قَالَ صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سبع قرب لم تحلل أَو كيتهن وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَقَالَ سَمُرَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا عَلَى قَرْنِهِ فَاغْتَسَلَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَكِنْ فِي سَنَدِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ وَقَالَ أَنَسٌ إِذَا حُمَّ أَحَدُكُمْ فَلْيُشِنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ السَّحَرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ خَالِدِ بِنْتِ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُرَقَّعِ رَفَعَهُ الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَبَرِّدُوا لَهَا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ وَصُبُّوهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ فَفَعَلُوا فَذَهَبَ عَنْهُمْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَرُدُّ التَّأْوِيلَ الَّذِي نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ بن الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَأَبْرِدُوهَا الصَّدَقَةُ بِهِ قَالَ بن الْقَيِّمِ أَظُنُّ الَّذِي حَمَلَ قَائِلَ هَذَا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي الْحُمَّى فَعَدَلَ إِلَى هَذَا وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطْشَانِ بِالْمَاءِ أَخْمَدَ اللَّهُ لَهِيبَ الْحُمَّى عَنْهُ وَلَكِنْ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَإِشَارَتِهِ وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ بِالْأَصْلِ فَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ حَقِيقَةً كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ قَالَ نَافِع وَكَانَ عبد الله أَي بن عمر يَقُول

الصفحة 177