كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

عَنْ هَيَجَانِ الدَّمِ أَوِ انْصِبَابِ الدَّمِ إِلَى عُضْوٍ فَيُفْسِدُهُ وَأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَامَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ يُسَمَّى طَاعُونًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عُمُومِ الْمَرَضِ بِهِ أَوْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ يُغَايِرُ الْوَبَاءَ مَا سَيَأْتِي فِي رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ وَفِيهِ قَوْلُ بِلَالٍ أَخْرَجُونَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ وَمَا سَبَقَ فِي الْجَنَائِزِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا وَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّهُمُ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهَا أَرْضٌ وَبِئَةٌ فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَبَاءَ كَانَ مَوْجُودًا بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَبَاءَ غَيْرُ الطَّاعُونِ وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى كُلِّ وَبَاءٍ طَاعُونًا فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوَبَاءُ هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ يُقَالُ أَوْبَأَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُوبِئَةٌ وَوَبِئَتْ بِالْفَتْحِ فَهِيَ وَبِئَةٌ وَبِالضَّمِّ فَهِيَ مَوْبُوءَةٌ وَالَّذِي يَفْتَرِقُ بِهِ الطَّاعُونُ مِنَ الْوَبَاءِ أَصْلُ الطَّاعُونِ الَّذِي لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَطِبَّاءُ وَلَا أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي تَعْرِيفِ الطَّاعُونِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ مِنْ كَوْنِ الطَّاعُونِ يَنْشَأُ عَنْ هَيَجَانِ الدَّمِ أَوِ انْصِبَابِهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَحْدُثُ عَنِ الطَّعْنَةِ الْبَاطِنَةِ فَتَحْدُثُ مِنْهَا الْمَادَّةُ السُّمِّيَّةُ وَيَهِيجُ الدَّمُ بِسَبَبِهَا أَوْ يَنْصَبُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضِ الْأَطِبَّاءُ لِكَوْنِهِ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنَ الشَّارِعِ فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ قَوَاعِدُهُمْ وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الطَّاعُونُ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْصُلُ مِنْ غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ مِنْ دَمٍ أَوْ صَفْرَاءَ مُحْتَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ وَقِسْمٌ يَكُونُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ كَمَا تَقَعُ الْجِرَاحَاتُ مِنَ الْقُرُوحِ الَّتِي تَخْرُجُ فِي الْبَدَنِ مِنْ غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعْنٌ وَتَقَعُ الْجِرَاحَاتُ أَيْضًا مِنْ طَعْنِ الْإِنْسِ انْتَهَى وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الطَّاعُونَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ وُقُوعُهُ غَالِبًا فِي أَعْدَلِ الْفُصُولِ وَفِي أَصَحِّ الْبِلَادِ هَوَاءً وَأَطْيَبِهَا مَاءً وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْهَوَاءِ لَدَامَ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْهَوَاءَ يَفْسُدُ تَارَةً وَيَصِحُّ أُخْرَى وَهَذَا يَذْهَبُ أَحْيَانًا وَيَجِيءُ أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ فَرُبَّمَا جَاءَ سَنَةً عَلَى سَنَةٍ وَرُبَّمَا أَبْطَأَ سِنِينَ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمَّ النَّاسَ وَالْحَيَوَانَ وَالْمَوْجُودُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّهُ يُصِيبُ الْكَثِيرَ وَلَا يُصِيبُ مَنْ هُمْ بِجَانِبِهِمْ مِمَّا هُوَ فِي مِثْلِ مِزَاجِهِمْ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ وَلِأَنَّ فَسَادَ الْهَوَاءِ يَقْتَضِي تَغَيُّرَ الْأَخْلَاطِ وَكَثْرَةَ الْأَسْقَامِ وَهَذَا فِي الْغَالِبِ يَقْتُلُ بِلَا مَرَضٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ قَالَ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ زِيَادٍ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي قَالَ كُنَّا عَلَى بَابِ عُثْمَانَ نَنْتَظِرُ الْإِذْنَ فَسَمِعْتُ أَبَا مُوسَى قَالَ زِيَادٌ فَلَمْ أَرْضَ بِقَوْلِهِ فَسَأَلْتُ سَيِّدَ الْحَيِّ فَقَالَ صَدَقَ وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ زِيَادٍ فَسَمَّيَا الْمُبْهَمَ يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ وَسَمَّاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ النَّهْشَلِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي بِضْعَ عَشْرَةَ نَفْسًا مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِأَبِي مُوسَى وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَمَّاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ أُسَامَةَ هُوَ سَيِّدُ الْحَيِّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَاسْتَثْبَتَهُ فِيمَا حَدَّثَهُ بِهِ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا الْمُبْهَمَ وَأُسَامَةُ بْنُ شَرِيكٍ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ وَالَّذِي سَمَّاهُ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فَالْحَدِيث صَحِيح بِهَذَا

الصفحة 181