كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ بِخِلَافِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا قَدْ تَنْقَطِعُ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْحَوَادِثِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ مِنْ حَمْلِ النَّظَرِ عَلَى الرَّحْمَةِ أَوِ الْمَقْتِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَصْلُهُ فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَةً فَتَبَخْتَرَ فِيهَا فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَمَقَتَهُ فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ الْحَدِيثَ قَوْلُهُ مَنْ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ وَقَدْ فَهِمَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِع عَن بن عُمَرَ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ فَقَالَ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَدْ عَزَا بَعْضُهُمْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِمُسْلِمٍ فَوَهِمَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ وَكَأَنَّ مُسْلِمًا أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا عَلَى نَافِعٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ نَفْسِهَا وَفِيهِ اخْتِلَافَاتٌ أُخْرَى وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيث بن عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الصّديق عَن بن عُمَرَ قَالَ رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا فَكُنَّ يُرْسِلْنَ إِلَيْنَا فَنَذْرَعُ لَهُنَّ ذِرَاعًا وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْرَ الذِّرَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَأَنَّهُ شِبْرَانِ بِشِبْرِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْفَهْمِ التَّعَقُّبُ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْإِسْبَالِ مُقَيَّدَةٌ بِالْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْمُصَرِّحَةِ بِمَنْ فَعَلَهُ خُيَلَاءَ قَالَ النَّوَوِيُّ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْيِيدِهَا بِالْجَرِّ خُيَلَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِالْخُيَلَاءِ وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي اسْتِفْسَارِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي جَرِّ ذُيُولِهِنَّ مَعْنًى بَلْ فَهِمَتِ الزَّجْرَ عَنِ الْإِسْبَالِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ عَنْ مَخِيلَةٍ أَمْ لَا فَسَأَلَتْ عَنْ حُكْمِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِنَّ إِلَى الْإِسْبَالِ مِنْ أَجْلِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ جَمِيعَ قَدَمِهَا عَوْرَةٌ فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ حُكْمَهُنَّ فِي ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الرِّجَالِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَمُرَادُهُ مَنْعُ الْإِسْبَالِ لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ عَلَى فَهْمِهَا إِلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهَا أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِتَفْرِقَتِهِ فِي الْجَوَابِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْإِسْبَالِ وَتَبْيِينِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يَمْنَعُ مَا بَعْدَهُ فِي حَقِّهِنَّ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلرِّجَالِ حَالَيْنِ حَالُ اسْتِحْبَابٍ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْإِزَارِ عَلَى نِصْفِ السَّاقِ وَحَالُ جَوَازٍ وَهُوَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَكَذَلِكَ لِلنِّسَاءِ حَالَانِ حَالُ اسْتِحْبَابٍ وَهُوَ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا هُوَ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ بِقَدْرِ الشِّبْرِ وَحَالُ جَوَازٍ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَرَ لِفَاطِمَةَ مِنْ عَقِبِهَا شِبْرًا وَقَالَ هَذَا ذَيْلُ الْمَرْأَةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ شَبَرَ مِنْ ذَيْلِهَا شِبْرًا أَوْ شِبْرَيْنِ وَقَالَ لَا تَزِدْنَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يُسَمِّ فَاطِمَةَ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ قُلْتُ وأو شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَالَّذِي جَزَمَ بِالشِّبْرِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَرَ لِفَاطِمَةَ شِبْرًا وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْجَرِّ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَأَنَّ الْبَطَرَ وَالتَّبَخْتُرَ مَذْمُومٌ وَلَوْ لِمَنْ شَمَّرَ ثَوْبَهُ وَالَّذِي يَجْتَمِعُ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالْمَلْبُوسِ الْحَسَنِ إِظْهَارَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا لَهَا شَاكِرًا عَلَيْهَا غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلُهُ لَا يَضُرُّهُ مَا لَبِسَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَلَوْ كَانَ فِي غَايَةِ النَّفَاسَةِ فَفِي صَحِيح مُسلم عَن بن مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ

الصفحة 259