كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)
الرَّاغِبُ الْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِي الشَّيْءِ فَمِنْهُ مَا يُحْمَدُ وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ فَالْمَحْمُودُ مُجَاوَزَةُ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ إِلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ بِالتَّطَوُّعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالْمَذْمُومُ مُجَاوَزَةُ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ وَالْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْمُبَاحِ إِلَى الشُّبْهَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ الْبَغْيُ عَلَى الْمَذْمُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم وَقَالَ تَعَالَى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَاد وَإِذَا أُطْلِقَ الْبَغْيُ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَحْمُودُ يُزَادُ فِيهِ غَالِبًا التَّاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَابْتَغُوا عِنْد الله الرزق وَقَالَ تَعَالَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبك ترجوها وَقَالَ غَيْرُهُ الْبَغْيُ الِاسْتِعْلَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْهُ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا فَسَدَ قَوْلُهُ وَتَرْكُ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بن بَطَّالٍ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرْجَمَةِ الْبَابِ مَعَ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَهَى عَنِ الْبَغْيِ وَأَعْلَمَ أَنَّ ضَرَرَ الْبَغْيِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْبَاغِيِ وَضَمِنَ النَّصْرَ لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ كَانَ حَقُّ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ وَقَدِ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَاقِبِ الَّذِي كَادَهُ بِالسِّحْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابَقَةُ التَّرْجَمَةِ لِلْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ خَشْيَةَ أَنْ يَثُورَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرٌّ فَسَلَكَ مَسْلَكَ الْعَدْلِ فِي أَنْ لَا يَحْصُلَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَاطَ السِّحْرَ مَنْ أَثَرِ الضَّرَرِ النَّاشِئِ عَنِ السِّحْرِ شَرٌّ وَسَلَكَ مَسْلَكَ الْإِحْسَانِ فِي تَرْكِ عُقُوبَةِ الْجَانِي كَمَا سبق وَقَالَ بن التِّينِ يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ ضَعِيفَةٌ لِجَمْعِهِ تَعَالَى بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ وَالْعَدْلُ وَاجِبُ وَالْإِحْسَانُ مَنْدُوبٌ قُلْتُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ فَقِيلَ الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِحْسَانُ الْفَرَائِضُ وَقِيلَ الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِحْسَانُ الْإِخْلَاصُ وَقِيلَ الْعَدْلُ خَلْعُ الْأَنْدَادِ وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ وَقِيلَ الْعَدْلُ الْفَرَائِضُ وَالْإِحْسَانُ النَّافِلَةُ وَقِيلَ الْعَدْلُ الْعِبَادَةُ وَالْإِحْسَانُ الْخُشُوعُ فِيهَا وَقِيلَ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ وَقِيلَ الْعَدْلُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَالْإِحْسَانُ اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ وَقِيلَ الْعَدْلُ بَذْلُ الْحَقِّ وَالْإِحْسَانُ تَرْكُ الظُّلْمِ وَقِيلَ الْعَدْلُ اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْإِحْسَانُ فَضْلُ الْعَلَانِيَةِ وَقِيلَ الْعَدْلُ الْبَذْلُ وَالْإِحْسَانُ الْعَفْوُ وَقِيلَ الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وأقربها لِكَلَامِهِ الْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ بِمَزِيدِ الطَّاعَاتِ وَتَوَقِّي الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِالْإِنْصَافِ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَقَالَ الرَّاغِبُ الْعَدْلُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ يَقْتَضِي الْعَقْلُ حُسْنَهُ وَلَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ مَنْسُوخًا وَلَا يُوصَفُ بِالِاعْتِدَاءِ بِوَجْهٍ نَحْوَ أَنْ تُحْسِنَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ وَتَكُفَّ الْأَذَى عَمَّنْ كَفَّ أَذَاهُ عَنْكَ وَعَدْلٌ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُ النَّسْخُ وَيُوصَفُ بِالِاعْتِدَاءِ مُقَابَلَةً كَالْقِصَاصِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَأَخْذِ مَالِ الْمُرْتَدِّ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فَمَنِ اعْتدى عَلَيْكُم الْآيَةَ وَهَذَا النَّحْوُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان فَإِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمُكَافَأَةِ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَالْإِحْسَانَ مُقَابَلَةُ الْخَيْرِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَالشَّرِّ بِالتَّرْكِ أَوْ بِأَقَلِّ مِنْهُ
[6063] قَوْلُهُ سُفْيَان هُوَ بن عُيَيْنَةَ قَوْلُهُ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُورًا هَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ وَكَذَا قَوْلُهُ فَهَلَّا تَعْنِي تَنَشَّرْتَ وَمَنْ قَالَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّشْرَةِ أَوْ مِنْ نَشْرِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى إِظْهَارِهِ وَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهَا فَأُخْرِجَ وَبَيْنَ قَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هَلَّا اسْتَخْرَجْتَهُ وَأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ الْإِخْرَاجَ الْوَاقِعَ كَانَ لِأَصْلِ السِّحْرِ وَالِاسْتِخْرَاجَ الْمَنْفِيَّ كَانَ لِأَجْزَاءِ السِّحْرِ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ حَلِيفٌ لِيَهُودَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا للْيَهُود بِزِيَادَة لَام
الصفحة 480