كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

الْجَوْفِ مِنَ الْكَبِدِ وَالرِّئَةِ قُلْتُ وَيُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ مِنْ عَانَتِهِ إِلَى لَهَاتِهِ وَتَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِلثَّانِي لِأَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ الشِّعْرُ مَحَلُّهُ الْقلب لِأَنَّهُ ينشأ عَن الْفِكر وَأَشَارَ بن أَبِي جَمْرَةَ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ فِي امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنَ الشِّعْرِ بَيْنَ مَنْ يُنْشِئُهُ أَوْ يَتَعَانَى حِفْظَهُ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ قَيْحًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ الْمُدَّةُ لَا يُخَالِطُهَا دَمٌ وَقَوْلُهُ شِعْرًا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ شِعْرٍ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا حَقًّا كَمَدْحِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى الذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَسَائِرِ الْمَوَاعِظِ مِمَّا لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا أَشرت إِلَيْهِ قَرِيبا قَالَ بن بَطَّالٍ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا يَعْنِي الشِّعْرَ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ شَطْرَ بَيْتٍ لَكَانَ كُفْرًا فَكَأَنَّهُ إِذَا حَمَلَ وَجْهَ الْحَدِيثِ عَلَى امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ وَلَكِنْ وَجْهَهُ عِنْدِي أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ فَيَشْغَلَهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ الْغَالِبَيْنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ جَوْفُهُ مُمْتَلِئًا مِنَ الشِّعْرِ قُلْتُ وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ يَعْنِي مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ لَنَا ذَلِكَ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَيْحًا أَوْ دَمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هُجِيتَ بِهِ وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ لَا يعرف وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وبن عدي من رِوَايَة بن الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هجيت بِهِ وبن الْكَلْبِيِّ وَاهِي الْحَدِيثِ وَأَبُو صَالِحٍ شَيْخُهُ مَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ السَّمَّانُ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلْ هَذَا آخَرُ ضَعِيفٌ يُقَالُ لَهُ بَاذَانِ فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ أَبِي عُبَيْدٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَتْحَ وَغَيْرَهَا وَكَانَ شَاعِرًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي الشِّعْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْسَحْ عَلَى رَأْسِي قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي فَمَا قُلْتُ بَيْتَ شَعْرٍ بَعْدُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَمَرَّهَا عَلَى كَبِدِي وَبَطْنِي وَزَادَ الْبَغَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَاشْبِبْ بِامْرَأَتِكَ وَامْدَحْ رَاحِلَتَكَ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِامْتِلَاءُ مِنَ الشِّعْرِ لَمَا أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ دَلَّتِ الزِّيَادَةُ الْأَخِيرَةُ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْمُبَاحِ مِنْهُ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي غَزْوَةِ ودان عَن جَامع بن وَهْبٍ أَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأَوَّلَتْ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَتْ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الشِّعْرِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ فَإِنْ قُلْنَا بِذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا عَيْبُ امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ رِوَايَةُ الْيَسِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَلَا الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِشْكَالَ أَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَ عَائِشَةُ أَعْلَمُ مِنْهُ فَإِنَّ الَّذِي يَرْوِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ لَا يَكْفُرُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمُّوا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَن صَنِيع بن إِسْحَاقَ فِي إِيرَادِهِ بَعْضَ أَشْعَارِ الْكَفَرَةِ فِي هَجْوِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتُدِلَّ بِتَأْوِيلِ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ ثَابِتٌ بِاللُّغَةِ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْكَثِيرِ مِنَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَخُصَّ الذَّمُّ بِالْكَثِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِامْتِلَاءُ دُونَ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ بَنَى هَذَا التَّأْوِيلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَلَا يَكُونُ نَاقِلًا لِلُّغَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَسَّرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَا تَلَقَّفَهُ مِنْ لِسَانِ

الصفحة 549