كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أُجَدِّدُهُ وَأُبْلِيهِ وَأَذْهَبُ بِالْمُلُوكِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى الدَّهْرِ حَقِيقَةً كَفَرَ وَمَنْ جَرَى هَذَا اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْإِطْلَاقِ وَهُوَ نَحْوُ التَّفْصِيلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِمْ مُطِرْنَا بِكَذَا وَقَالَ عِيَاضٌ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ الدَّهْرَ مُدَّةُ زَمَانِ الدُّنْيَا وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ أَمَدُ مَفْعُولَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِعْلِهِ لِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَقَدْ تَمَسَّكَ الْجَهَلَةُ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الدَّهْرَ عِنْدَهُمْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ وَأَمَدُ الْعَالَمِ وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ وَلَا صَانِعَ سِوَاهُ وَكَفَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَكَيْفَ يُقَلِّبُ الشَّيْءُ نَفْسَهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّنْعَةَ فَقَدْ سَبَّ صَانِعَهَا فَمَنْ سَبَّ نَفْسَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَقْدَمَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ بِغَيْرِ مَعْنًى وَمَنْ سَبَّ مَا يَجْرِي فِيهِمَا مِنَ الْحَوَادِثِ وَذَلِكَ هُوَ أَغْلَبُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ حَيْثُ نَفَى عَنْهُمَا التَّأْثِيرُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا ذَنْبَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِوَسَاطَةِ الْعَاقِلِ الْمُكَلَّفِ فَهَذَا يُضَافُ شَرْعًا وَلُغَةً إِلَى الَّذِي جَرَى عَلَى يَدَيْهِ وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ بِتَقْدِيرِهِ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ أَكْسَابِهِمْ وَلَهَذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ وَهِيَ فِي الِابْتِدَاءِ خَلْقُ اللَّهِ وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى قُدْرَةِ الْقَادِرِ وَلَيْسَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا يَجْرِي مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْعَاقِلِ ثُمَّ أَشَارَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ تَنْبِيهٌ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ سَبِّ كُلِّ شَيْءٍ مُطْلَقًا إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا مَنْعُ الْحِيلَةِ فِي الْبُيُوعِ كَالْعَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَجَعَلَهُ سَبًّا لخالقه

(قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ)
وَقَدْ قَالَ إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ كَقَوْلِهِ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ إِنَّ الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها غَرَضُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَصْرَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْأَحَقَّ بِاسْمِ الْكَرْمِ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَمَّى كَرْمًا كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُفْلِسُ مَنْ ذُكِرَ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ مَنْ يُفْلِسُ فِي الدُّنْيَا لَا يُسَمَّى مُفْلِسًا وَبِقَوْلِهِ إِنَّمَا الصُّرَعَةُ كَذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ مَلِكًا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُلْكَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنْ سُمِّيَ غَيْرُهُ مَلِكًا وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ان

الصفحة 566