كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 10)

(

قَوْله بَاب شرب اللَّبن)
قَالَ بن الْمُنِيرِ أَطَالَ التَّفَنُّنَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِيَرُدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّبَنَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَرَدَّ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يُسْكِرُ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ فِيهِ ذَلِكَ نَادِرًا بِصِفَةٍ تَحْدُثُ وَقَالَ غَيْرُهُ قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمُ إنَّ اللَّبَنَ إِذَا طَالَ الْعَهْدُ بِهِ وَتَغَيَّرَ صَارَ يُسْكِرُ وَهَذَا رُبَّمَا يَقَعُ نَادِرًا إِنْ ثَبَتَ وُقُوعُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْثِيمُ شَارِبِهِ إِلَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّ عَقْلَهُ يَذْهَبُ بِهِ فَشَرِبَهُ لِذَلِكَ نَعَمْ قَدْ يَقَعُ السُّكْرُ بِاللَّبَنِ إِذَا جُعِلَ فِيهِ مَا يَصِيرُ بِاخْتِلَاطِهِ مَعَهُ مُسْكِرًا فَيَحْرُمُ قُلْتُ أَخْرَجَ سعيد بن مَنْصُور بِسَنَد صَحِيح عَن بن سِيرِين أَنه سمع بن عُمَرَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فَقَالَ إِنَّ أَهْلَ كَذَا يَتَّخِذُونَ مِنْ كَذَا وَكَذَا خَمْرًا حَتَّى عَدَّ خَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ لَمْ أَحْفَظْ مِنْهَا إِلَّا الْعَسَلَ وَالشَّعِيرَ وَاللَّبَنَ قَالَ فَكُنْتُ أَهَابُ أَنْ أُحَدِّثَ بِاللَّبَنِ حَتَّى أُنْبِئْتُ أَنَّهُ بِأَرْمِينِيَّةَ يُصْنَعُ شَرَابٌ مِنَ اللَّبَنِ لَا يَلْبَثُ صَاحِبُهُ أَنْ يُصْرَعَ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ ثُمَّ طَالَ مُكْثُهُ حَتَّى زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ وَرَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِذَلِكَ وَهَذَا فِي الْكَثِيرِ وَبِغَيْرِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْقَلِيلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْقَلِيلُ الْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجَاسَةِ فَفِيمَا إِذَا زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ خِلَافٌ هَلْ يَطْهُرُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَطْهُرُ وَظَاهِرُ الِاسْتِدْلَالِ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِالتَّطْهِيرِ لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْبُعْدِ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَنِيِّ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّبَنَ خَالَطَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ ثُمَّ اسْتَحَالَ فَخَرَجَ خَالِصًا طَاهِرًا وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ يَنْقَصِرُ مِنَ الدَّمِ فَيَكُونُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ نَجِسًا قَوْلُهُ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ لَبَنًا خَالِصًا وَزَادَ غَيْرُهُ وَغَيْرُ النَّسَفِيِّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ وَوَقَعَ بِلَفْظِ يَخْرُجُ فِي أَوَّلِهِ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ وَالَّذِي فِي الْقُرْآنِ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بطونه من بَين فرث وَدم وَأَمَّا لَفْظُ يَخْرُجُ فَهُوَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنَ السُّورَةِ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألوانه وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعَلَيْهِ جَرَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ وبن بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا بِحَذْفِ يَخْرُجُ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوَّلِ الْبَابِ عِنْدَهُمْ وَقَوْلُ اللَّهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدم فَكَأَنَّ زِيَادَةَ لَفْظِ يَخْرُجُ مِمَّنْ دُونَ الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِحْلَالِ شُرْبِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ لِوُقُوعِ الِامْتِنَانِ بِهِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا وَالْفَرْثُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ هُوَ مَا يَجْتَمِعُ فِي الْكَرِشِ وَقَالَ الْقَزَّازُ هُوَ مَا أُلْقِيَ مِنَ الْكَرِشِ تَقُولُ فَرَثْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ وِعَائِهِ فَشَرِبْتُهُ فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ سِرْجِينُ وَزِبْلٌ وَأَخْرَجَ الْقَزاز عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّ الدَّابَّةَ إِذَا أَكَلَتِ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ فِي كَرِشِهَا طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا وَأَعْلَاهُ دَمًا وَالْكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِ فَتَقْسِمُ الدَّمَ وَتُجْرِيهِ فِي الْعُرُوقِ وَتُجْرِي اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ فِي الْكَرِشِ وَحْدَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَبَنًا خَالِصًا أَيْ مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ وَقَوْلُهُ سَائِغًا أَيْ لَذِيذًا هَنِيئًا لَا يُغَصُّ بِهِ شَارِبُهُ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ

[5603] قَوْلُهُ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا وَالْحِكْمَةُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخَمْرِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَاللَّبَنِ مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا إِمَّا لِأَنَّ الْخَمْرَ حِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ أَوْ لِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَخَمْرُ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ حَرَامًا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ حُكِيَ فِيهِ تَنْوِينُ لَيْلَةٍ وَالَّذِي أَعْرِفُهُ فِي الرِّوَايَة الْإِضَافَة الحَدِيث الثَّانِي حَدِيثُ أُمِّ الْفَضْلِ فِي شُرْبِ اللَّبَنِ بِعَرَفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصِّيَامِ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُرْسِلَتْ إلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ قَالَ هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ يَعْنِي أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ رُبَّمَا أَرْسَلَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَوْصُولٌ أَوْ مُرْسَلٌ قَالَ هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ هُوَ مَوْصُولٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وُقِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ

الصفحة 71