كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 10)

لطولها بالتمييز، وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد إضلالا حيث قالوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا إلخ والمضل لغيره لا بد أن يكون ضالا في نفسه جيء بهذه الجملة ردا عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلّى الله عليه وسلّم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي نفي ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هاديا لا مضلا، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمآل وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه، والظاهر أن- رأى- بصرية ومَنِ مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة، واتَّخَذَ متعدية لمفعولين أولهما هَواهُ وثانيهما إِلهَهُ وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث إن الإله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلها لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه، وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول أَرَأَيْتَ واتَّخَذَ الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره إلهه فإذا قيل إلهه هواه كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه.
وقال صاحب الفرائد: تقديم المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبرا فالمقدم هو المبتدأ فمن جعل ما هنا نظير قولك: علمت منطلقا زيدا فقد غفل عن هذا، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم إِلهَهُ يشعر بأنه لا بد من إله فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فإنه يشعر بأن له ابنا ولا يشعر بأن له غلاما فهذا فائدة تقديم إلهه على هواه. وتعقب ذلك الطيبي فقال: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى فإذا قيل: زيد الأسد فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فإذا جعلته مبتدأ في قولك: الأسد زيد فقد أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القار فيه فالمشبه به هاهنا إلا له والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله فقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبها ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] ولمح صاحب المفتاح إلى هذا المعنى في كتابه.
وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله: اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله: اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرما مدللا اه، وأنت تعلم ما في قوله: إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن إِلهَهُ الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي، وقال شيخ الإسلام: من توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب.
ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ «آلهة» منونة على الجمع وجعل ذلك على التقديم والتأخير، والمعنى جعل كل جنس من هواه إلها، وذكر أيضا أن ابن هرمز قرأ «إلهة» على وزن فعالة وهو أيضا من التقديم والتأخير أي جعل هواه إلهة

الصفحة 24