كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 10)

والتشاغل بهذه القاذورات ولولا آفة الإعجاب وحسن ظن الإنسان بعلمه وحرصه على أن لا يشذ عنه شيء من المعارف لكان من الواجب على مثله مع غزارة علمه وعلو طبقته في الأبحاث الحقيقية أن يكتفي بما عنده، ولا يتعرض لما لا يعلمه، وقد تأدى إلينا من تدابيره عن أصحابه الذين شاهدوها أنه لم يكن يعرف حقيقة علمنا، وقد رأينا بخطه من التعاليق الملتقطة من كلام جابر بن حيان، وخالد بن يزيد ما يدل أيضا على ذلك اهـ ملخصا، والكلام في هذا المطلب طويل وفيما ذكرنا كفاية لمن أحب الاطلاع على شيء مما قيل في ذلك، والله تعالى الموفق، ثم إن القول بأن المراد بالعلم في الآية علم استخراج الكنوز والدفائن يستدعي ثبوت هذا العلم، وأهل علم الحرف وعلم الطلسمات يقولون به ولهم في ذلك كلام طويل والعقل يجوز ثبوته، والله تعالى أعلم بثبوته في نفس الأمر.
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصّاص، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال، والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل الله تعالى بمن هو أشد منه قوة حسا أو معنى وأكثر مالا أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لا يغتر بما اغتر به، ويحتمل أن تكون الهمزة للإنكار داخلة على مقدر، وجملة أولم يعلم حالية مقررة للإنكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك: أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة، والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين، وقيل: إن لَمْ يَعْلَمْ عطف على ذلك المقدر ونفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للجرمين، وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام، والمراد بالسؤال المنفي هنا، وكذا في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] على ما قيل: سؤال الاستعلام، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] .
والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضا، والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم، ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع وأشنع من عذاب الآخرة فإن عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالإيقاع به لا محالة، وجعل الزمخشري الجملة تذييلا لما قبلها، وقيل: إن ذلك في الدنيا.
والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز وجل إلى مسألتهم عنها، وقيل: إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون، والإفراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى، والمعنى ولا يسأل عن ذنوب أولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم، ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوب المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وكلا القولين كما ترى، وربما يختلج في ذهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالا من فاعل أهلك أو من مفعوله لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك.

الصفحة 326