كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ، ثنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُحْطُبِيُّ قَالَا: قَدِمَ أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ وَكَانَ صُوفِيًّا مُتَكَلِّمًا فِي بَعْضِ قَدَمَاتِهِ مِنْ مَكَّةَ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَجِّ فَخَرَجْنَا فَاسْتَقْبَلْنَاهُ فَوْقَ بَغْدَادَ فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهٍ تَغَيُّرًا فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ تَغَيُّرُ الْأَسْرَارِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَبْشَارِ فَقَالَ: " لَا §إِنَّ الْحَقَّ تَحَمَّلَ كُلَّ كَلٍّ وَثِقْلٍ عَنْ قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
[البحر الرجز]
أَخْرَجَنِي مِنْ وَطَنِي ... كَمَا تَرَى صَيَّرَنِي
صَيَّرَنِي كَمَا تَرَى ... أَسْكُنُ قَفْرَ الدِّمَنِ
إِذَا تَغَيَّبْتُ بَدَا ... وَإِنْ بَدَا غَيَّبَنِي
وَافَقْتُهُ حَتَّى إِذَا ... وَافَقَنِي خَالَفَنِي
يَقُولُ لَا تَشْهَدُ مَا ... تَشْهَدُ أَوْ تَشْهَدُنِي
سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مِقْسَمٍ، يَقُولُ: رُئِيَ النُّورِيُّ فِي رُجُوعِهِ مِنَ الْحَرَمِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا خَاطِرُهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلْ يَلْحَقُ الْأَسْرَارَ مَا يَلْحَقُ الصِّفَاتِ؟ فَقَالَ: " لَا §إِنَّ الْحَقَّ أَقْبَلَ عَلَى الْأَسْرَارِ فَحَمَلَهَا وَأَعْرَضَ عَنِ الصِّفَاتِ فَمَحَقَهَا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
[البحر الرجز]
هَكَذَا صَيَّرَنِي أَزْعَجَنِي عَنْ وَطَنِي
غَرَّبَنِي شَرَّدَنِي شَرَّدَنِي غَرَّبَنِي
حَتَّى إِذَا غِبْتُ بَدَا وَإِنْ بَدَا غَيَّبَنِي
وَاصَلَنِي حَتَّى إِذَا وَاصَلْتُهُ فَاصَلَنِي
يَقُولُ لَا تَشْهَدُ مَا تَشْهَدُ أَوْ تَشْهَدُنِي
سَمِعْتُ عُمَرَ الْبَنَّاءَ، الْبَغْدَادِيُّ بِمَكَّةَ يَحْكِي: لَمَّا كَانَتْ مِحْنَةُ غُلَامِ الْخَلِيلِ وَنَسَبَ الصُّوفِيَّةَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ أَمَرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ فَأُخِذَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُخِذَ النُّورِيُّ فِي جَمَاعَةٍ فَأُدْخِلُوا عَلَى الْخَلِيفَةِ فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ فَتَقَدَّمَ النُّورِيُّ مُبْتَدِرًا إِلَى السَّيَّافِ لِيضْرَبَ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ السَّيَّافُ: مَا دَعَاكَ إِلَى الِابْتِدَارِ إِلَى الْقَتْلِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: " §آثَرْتُ حَيَاتَهُمْ عَلَى حَيَاتِي هَذِهِ اللَّحْظَةَ، فَتَوَقَّفَ السَّيَّافُ وَالْحَاضِرُونَ عَنْ قَتْلِهِ، وَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَرَدَّ أَمَرَهُمْ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ وَكَانَ يَلِي الْقَضَاءَ يَوْمَئِذٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ النُّورِيُّ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَأَجَابَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ -[251]-: وَبَعْدَ هَذَا لِلَّهِ عِبَادٌ يَسْمَعُونَ بِاللَّهِ وَيَنْظُرُونَ بِاللَّهِ وَيَصْدُرُونَ باللهِ وَيَرُدُّونَ بِاللَّهِ وَيَأْكُلُونَ بِاللَّهِ وَيلْبَسُونَ بِاللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِسْمَاعِيلُ كَلَامَهُ بَكَى طَوِيلًا ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ زَنَادِقَةً فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُوَحِّدٌ فَأَمَرَ بِتَخْلِيَتِهِمْ وَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ يَوْمَئِذٍ: مِنْ أَيْنَ يَأْكُلُونَ؟ فَقَالَ: لَسْنَا نَعْرِفُ الْأَسْبَابَ الَّتِي نُسْتَجْلَبُ بِهَا الْأَرْزَاقُ نَحْنُ قَوْمٌ مُدَبِّرُونَ وَقَالَ: مَنْ وَصَلَ إِلَى وُدِّهِ أَنِسَ بِقُرْبِهِ وَمَنْ تُوَصَّلَ بِالْوِدَادِ فَقَدِ اصْطَفَاهُ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادِ "
الصفحة 250