كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الدَّيْنَوَرِيِّ: «§مَنِ اسْتَخْلَصَهُ الْحَقُّ بِمُفْرَدِ ذِكْرِهِ وَصَافَاهُ يَكُونُ لَهُ وَلِيًّا مُنْتَخِبًا مُكْرِمًا مُوَاصِلًا يُوَرِّثُهُ غَرَائِبَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَزِيدُهُ فِي التَّقْرِيبِ زُلْفًى وَيُثْبِتُهُ فِي مُحَاضِرِ النَّجْوَى وَيَصْطَنِعُهُ لِلْخُلَّةِ وَالِاصْطِفَاءِ وَيَرْفَعُهُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى وَيُبَلِّغُهُ فِي الرِّفْعَةِ إِلَى الْمُنْتَهَى وَيُشْرِفُ بِهِ مِنْ ذِرْوَةِ الذُّرَى عَلَى مَوَاطِنِ الرُّشْدِ وَالْهُدَى وَعَلَى دَرَجَاتِ الْبَرَرَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَعَلَى مَنَازِلِ الصَّفْوَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَكُونُ كُلُّهُ مُنْتَظِمًا وَعَلَيْهِ بِالتَّمْكِينِ مُحْتَوِيًا وَبِأَنْبَائِهِ خَبِيرًا عَالِمًا وَعَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارِ حَاكِمًا وَبِإِرْشَادِ الطَّالِبِينَ لَهُ إِلَيْهِ قَائِمًا وَعَلَيْهِمْ بِالْفَوَائِدِ وَالْعَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ دَائِمًا، وَلِمَا نَصَبَ لَهُ الْأَئِمَّةَ مِنَ الرِّعَايَةِ لَدَيْهِ بِهِ لَازِمًا، وَذَلِكَ إِمَامُ الْهُدَاةِ السُّفَرَاءِ الْعُظَمَاءِ الْأَجِلَّةِ الْكُبَرَاءِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُمْ لِلدِّينِ عُمُدًا وَلِلْأَرْضِ أَوْتَادًا جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَرْفَعِهِمْ لَدَيْهِ قَدْرًا وَأَعْظَمِهِمْ فِي مَحَلِّ عِزِّهِ أَمْرًا إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ سُمَيْعٌ»
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِهِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، قَالَ: «§لَا أُحِبُّ مَنْ يَغِيبُ عَنْ عِيَانِي، وَعَنْ قَلْبِي، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنِّي إِنَّمَا أُحِبُّ مَنْ يَدُومُ لِي النَّظَرُ إِلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَوْجُودًا غَيْرَ مَفْقُودٍ، وَكَذَلِكَ رَأَيْنَا أَنَّ أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُحِبِّينَ أَنْ يَغِيبَ عَنْهُمْ مَنْ أَحَبُّوهُ، وَأَنْ يَفْقِدُوا شَاهِدَهُمْ»
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْإِيمَانِ، مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «§الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِيقَانُ وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ بِمَا غَابَ عَنِ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لِي بِمَا غَابَ عَنِّي إِنْ كَانَ عِنْدِي صَادِقًا لَا يُعَارِضُنِي فِي صِدْقِهِ رَيْبٌ وَلَا شَكٌّ أَوْجَبَ عَلَيَّ تَصْدِيقِي إِيَّاهُ إِنْ ثَبَتَ لِي الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ تَأْكِيدِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقُ الصَّادِقِ عِنْدِي يُوجِبُ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَنِي بِهِ كَأَنِّي لَهُ مُعَايِنٌ وَذَلِكَ صِفَةُ قُوَّةُ الصِّدْقِ فِي التَّصْدِيقِ وَقُوَّةِ الْإِيقَانِ الْمُوجِبِ لِاسْمِ الْإِيمَانِ»
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صلّى -[266]- الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: «§اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، فَأَمْرُهُ بِحَالَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَقْوَى مِنَ الْأُخْرَى؛ لِأَنِّي كَأَنِّي أَرَى الشَّيْءَ بِقُوَّةِ الْعِلْمِ بِهِ، وَحَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ لَهُ أَقْوَى مِنْ أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَرَانِي، وَإِنْ كَانَ عِلْمِي بِأَنَّهُ يَرَانِي حَقِيقَةُ عِلْمِ مُوجِبَةٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَقْوَى وَالْفَضْلُ يَجْمَعُهَا عَلَى تَقْدِيمِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، قَالَ أَحْمَدُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ عَلَامَةِ الْإِيمَانِ قَالَ: الْإِيمَانُ عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنْتَ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَتَرْكِ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِشَيْءٍ يَنْقَضِي عِنْدَهُ حَتَّى أَكُونَ عَلَيْهِ مُقْبِلًا وَلِمُوَافَقَتِهِ مُؤْثِرًا وَلِمَرْضَاتِهِ مُتَحَرِّيًا؛ لِأَنَّ مِنْ صِفَةِ حَقِيقَةِ عَلَامَةِ الْإِيمَانِ أَلَّا أُوثِرَ عَلَيْهِ شَيْئًا دُونَهُ وَلَا أَتَشَاغَلَ عَنْهُ بِسَبَبٍ سِوَاهُ حَتَّى يَكُونَ الْمَالِكَ لِسِرِّي وَالْحَاثَّ لِجَوَارِحِي بِمَا أَمَرَنِي مَنْ آمَنْتُ بِهِ وَلَهُ عَرَفْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقَعُ الطَّاعَةُ لِلَّهِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ وَمُخَالَفَةِ كُلِّ الْأَهْوَاءِ وَالْمُجَانَبَةِ لِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْأَعْدَاءُ وَالْمُتَارَكَةِ لِمَا انْتَسَبَ إِلَى الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى وَهَذِهِ بَعْضُ الشَّوَاهِدِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا سَأَلْتَ عَنْهُ وَصِفَةُ الْكَلِّ يَطُولُ شَرْحُهُ، قَالَ وَسَأَلْتُهُ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَ: هَذَا سُؤَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا مَعْنَىً يُنْبِئُ عَنْ مَزِيدٍ مِنْ عِلْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُجَرَّدًا، وَحَقِيقَتُهُ فِي الْقُلُوبِ مُفْرَدًا وَإِنَّمَا هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ، وَبِمَا أَخْبَرَ مِنْ أُمُورِهِ فِي سَائِرِ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْإِيقَانِ وَإِنْ لَمْ أَرَهُ بِالْعِيَانِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلصِّدْقِ صِدْقٌ وَلِلْإِيقَانِ إِيقَانٌ؟ وَإِنَّمَا الصِّدْقُ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ وَالْإِيقَانُ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدِي فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلِي وَإِنَّمَا أَنَا الْفَاعِلُ؟، أَوْ يَعْلَمَ عِلْمِي وَإِنَّمَا أَنَا الْعَالِمُ؟ وَالسُّؤَالُ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِيمَانِ إِيمَانٌ وَلِلتَّصْدِيقِ تَصْدِيقٌ جَازَ أَنْ يُوَالَى ذَلِكَ وَيُكَرَّرَ إِلَى غَايَةٍ تَكْثُرُ فِي الْعَدَدِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَمَا عَادَ عَلَيَّ ثَوَابُ إِيمَانِي وَثَوَابُ تَصْدِيقِي أَنْ يَعُودَ عَلَى إِيمَانِ إِيمَانِي ثَوَابٌ وَعَلَى تَصْدِيقِ تَصْدِيقِي جَزَاءٌ، وَلَوْ أَرَدْتُ اسْتِقْصَاءَ الْقَوْلِ فِي وَاجِبِ ذَلِكَ لَاتَّسَعَ بِهِ الْكِتَابُ وَطَالَ بِهِ الْخَطَّابُ وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَوَابِ

الصفحة 265