كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)

سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، قُلْتُ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مَوْصُوفًا بِالْعَقْلِ؟ قَالَ: " §إِذَا كَانَ لِلْأُمُورِ مُمَيِّزًا وَلَهَا مُتَصَفِّحًا وَعَمَّا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ بَاحِثًا: يَبْحَثُ يَلْتَمِسُ بِذَلِكَ طَلَبَ الَّذِي هُوَ بِهِ أَوْلَى لَيَعْمَلَ بِهِ وَيُؤْثِرَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ صِفَتِهِ رُكُوبُ الْفَضْلِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ بَعْدَ إِحْكَامِ الْعَمَلِ بِمَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْعُقَلَاءِ إِغْفَالُ النَّظَرِ لِمَا هُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى وَلَا مِنْ صِفَتِهِمُ الرِّضَا بِالنَّقْصِ وَالتَّقْصِيرِ فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ بَعْدَ إِحْكَامِهِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ تَرَكَ التَّشَاغُلَ بِمَا يَزُولُ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِمَا يَفْنَى وَيَنْقَضِي وَذَلِكَ صِفَةُ كُلِّ مَا حَوَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ لَا يَرْضَى أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهِ بِقَلِيلٍ زَائِلٍ وَيَسِيرٍ حَائِلٍ يَصُدُّهُ التَّشَاغُلُ بِهِ وَالْعَمَلُ لَهُ عَنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي يَدُومُ نَعِيمُهَا وَنَفْعُهَا وَيَتَّصِلُ بِقَاؤُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَدُومُ نَفْعُهُ وَيَبْقَى عَلَى الْعَامِلِ لَهُ حَظُّهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ زَائِلٌ مَتْرُوكُ مَفَارِقُ مَوْرُوثٌ يَخَافُ مَعَ تَرْكِهِ سُوءُ الْعَاقِبَةِ فِيهِ وَمُحَاسَبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْعَاقِلِ لِتَصَفُّحِهِ الْأُمُورَ بِعَقْلِهِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا بِأَوْفَرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}، كَذَلِكُ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَذَوُو الْأَلْبَابِ هُمْ ذَوُو الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ لِلْأَخْذِ بِأَحْسَنِ الْأُمُورِ عِنْدَ اسْتِمَاعِهَا، وَأَحْسَنُ الْأُمُورِ وَهُوَ أَفْضَلُهَا وَأَبْقَاهَا عَلَى أَهْلِهَا نَفْعًا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَإِلَى ذَلِكَ نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ عَقَلَ فِي كِتَابِهِ "
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُرَيْرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: " §مَا أَخَذْنَا -[278]- التَّصَوُّفَ عَنِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، لَكِنْ عَنِ الْجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا، وَقَطْعِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَالْمُسْتَحْسَنَاتِ،؛ لِأَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ صَفَاءُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ، وَأَصْلُهُ الْعُزُوفُ عَنِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ حَارِثَةُ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي "

الصفحة 277