كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)

وَحَكَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْفَرَجِيِّ: إِنَّكَ تُنْكِرُ الزَّعْقَةَ وَالصَّيْحَةَ فَقَالَ: " إِنَّمَا §أُنْكِرُهَا عَلَى الْكَذَّابِينَ وَقَالَ: مَا زَعَقْتُ مِنْ عُمْرِي إِلَّا ثَلَاثَ زَعْقَاتٍ: فَإِنِّي انْتَهَيْتُ بِبَغْدَادَ يَوْمًا إِلَى الْجِسْرِ وَأُخْرِجَ رَجُلٌ مِنَ الشَّطَّاحِينَ مِنَ السِّجْنِ يُضْرَبُ ثُمَّ رُدَّ إِلَى السِّجْنِ وَالنَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى الْجَلْدِ فَجِئْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَسْأَلَةٌ، فَقَالَ: أَوْسِعُوا لَهُ مَا مَسْأَلَتُكَ؟ قُلْتُ: أَسْهَلُ مَا يَكُونُ الضَّرْبُ عَلَيْكُمْ أَيَّ وَقْتٍ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مَنْ ضُرِبْنَا لَهُ يَرَانَا، قَالَ: فَصِحْتُ وَلَمْ أَمْلِكِ السُّكُوتَ "
قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَخْبَرَنِي عَمِّي يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمَرْزُبَانِ الصَّيْقَلُ قَالَ: " §أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ فَرَافَقَّ الْجَمَّالُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِنْسَانٍ لَا أَعْرِفُهُ فَقُلْتُ لَهُ بَعْدَ أَنْ رَافَقَنِي: نَحْتَاجُ مِنَ الزَّادِ كَذَا وَكَذَا، وَمِنَ الزَّيْتِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَا تَشْتَرِ شَيْئًا وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُحَاسِبُنِي عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّفَقَاءٌ وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ يُسْرِفُ وَيوَسِّعُ النَّفَقَةَ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي كُلُّ هَذَا يُحَاسِبُنِي بِهِ، فَكُنْتُ أَحْتَشِمُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: أَقْصِرْ وَأَحْتَمِلُهُ فَلَمَّا صِرْتُ بِمَكَّةَ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: الْحِسَابُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا وَأَقْبَلَ يُنْكِرُ عَلَيَّ ذَلِكَ فَقُلْتُ: لَابُدَّ مِنْهُ فَأَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَإِذَا هُوَ الْفَرَجِيُّ "
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَجِيِّ قَالَ: " §خَرَجْتُ مِنَ الشَّامِ عَلَى طَرِيقِ الْمَفَازَةِ فَوَقَعْتُ فِي التِّيهِ فَمَكَثْتُ فِيهِ أَيَّامًا حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى الْمَوْتِ: قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرَاهِبَيْنِ يَسِيرَانِ كَأَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يُرِيدَانِ دَيْرًا لَهُمَا قَرِيبًا فَقُمْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدَانِ؟ قَالَا: لَا نَدْرِي، قُلْتُ: أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَعَمْ نَحْنُ فِي مُلْكِهِ وَمَمْلَكَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَأَقْبَلْتُ عَلَى نَفْسِي أُوَبِّخُهَا وَأَقُولُ لَهَا: رَاهِبَانِ يَتَحَقَّقَانِ بِالتَّوَكُّلِ دُونَكِ فَقُلْتُ لَهُمَا: أَتَأْذَنَانِ فِي الصُّحْبَةِ؟ قَالَا: ذَلِكَ إِلَيْكَ، فَاتَّبَعْتُهَمَا فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَامَا إِلَى صَلَاتِهِمَا وَقُمْتُ إِلَى صَلَاتِي فَصَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ بِتَيَمُّمٍ فَنَظَرَا إِلَيَّ وَقَدْ تَيَمَّمْتُ، فَضَحِكَا مِنِّي فَلَمَّا -[289]- فَرَغَا مِنْ صَلَاتِهِمَا بَحَثَ أَحَدُهُمَا الْأَرْضَ بِيَدِهِ فَإِذَا بِمَاءٍ قَدْ ظَهَرَ وَطَعَامٍ مَوْضُوعٍ فَبَقِيتُ أَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَا: مَا لَكَ؟ ادْنُ فَكُلْ وَاشْرَبْ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا وَتَهَيَّأْتُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ فَذَهَبَ فَلَمْ يَزَالَا فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُصَلِّي عَلَى حِدَةٍ حَتَّى أَصْبَحْنَا وَصَلَّيْنَا الصُّبْحَ ثُمَّ أَخَذْنَا فِي الْمَسِيرِ فَمَكَثْنَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَمَّا جَنَّنَا اللَّيْلُ تَقَدَّمَ الْآخَرُ فَصَلَّى بِصَاحِبِهِ ثُمَّ دَعَا بِدَعَوَاتٍ وَبَحَثَ الْأَرْضَ بِيَدِهِ فَنَبَعَ الْمَاءُ وَحَضَرَ الطَّعَامُ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَا: يَا مُسْلِمُ هَذِهِ نَوْبَتُكَ اللَّيْلَةُ فَاسْتَخِرِ اللَّهَ قَالَ: فَتَعِبْتُ فِيهَا وَاسْتَحْيَتُ وَدَخَلَ بَعْضِي فِي بَعْضٍ قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ ذُنُوبِيَ لَمْ تَدَعْ لِي عِنْدَكَ جَاهًا وَلَكِنْ أَسْأَلُكَ أَلَّا تَفْضَحَنِي عِنْدَهُمَا وَلَا تُشْمِتَهُمَا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأُمَّةِ نَبِيِّكَ، فَإِذَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ فَأَكَلْنَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَشَرِبْنَا وَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَتْنِي النَّوْبَةُ الثَّانِيَةُ فَفَعَلْتُ كَذَلِكَ فَإِذَا بِطَعَامِ اثْنَيْنِ وَشَرَابٍ فَكَفَفْتُ يَدِي وَأُرِيهُمَا أَنِّي آكُلُ وَلَمْ آكُلْ فَسَكَتَا عَنِّي، فَلَمَّا كَانَتِ النَّوْبَةُ الثَّالِثَةُ أَصَابَنِي كَذَلِكَ فَقَالَا لِي: يَا مُسْلِمُ، مَا هَذَا؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَلَمَّا كَانَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَإِذَا بِقَائِلٍ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَرَدْنَا بِكَ الْإِيثَارَ الَّذِي اخْتَصَصْنَا بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَهِيَ عَلَامَتُهُ وَكَرَامَتُهُ وَكَرَامَةُ أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَبَلَغْتُ نَوْبَتِي وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَالَا لِي: يَا مُسْلِمُ، مَا هَذَا؟ مَا لَنَا نَرَى طَعَامَكَ نَاقِصًا؟ قُلْتُ: أَوَ لَا تَعْلَمَانِ مَا هَذَا؟ قَالَا: لَا قُلْتُ: هَذَا خَلْقٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَّ بِهِ أُمَّتَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُرِيدُ بِهِ الْإِيثَارَ فَقَدْ آثَرْتُكُمَا، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لَقَدْ صَدَقْتَ قَوْلَكَ، هَذَا خَبَرٌ نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ فَأَسْلَمَا، فَقُلْتُ لَهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ قَالَا: ذَلِكَ الْوَاجِبُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَا: فَاسْأَلِ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَنَا مِنْ هَذَا التِّيهِ إِلَى أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنَ الشَّامِ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ أَشْرَفْنَا عَلَى بُيوتَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ "

الصفحة 288