كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)
قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَلَقَدْ صِحِبْتُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يُبَيِّتُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً كَانَ يُخْرِجُهُ مِنَ اللَّيْلِ وَيَذْهَبُ مَذْهَبَ شَقِيقٍ فِي التَّوَكُّلِ، وَكَانَ يَقُولُ: " §بِنَاءُ مَذْهَبِنَا عَلَى شَرَائِطَ ثَلَاثٍ: لَا نُطَالِبُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بِوَاجِبِ حَقِّنَا، وَنُطَالِبُ أَنْفُسَنَا بِحُقُوقِ النَّاسِ، وَنُلْزِمُ أَنْفُسَنَا التَّقْصِيرَ فِي جَمِيعِ مَا نَأْتِي بِهِ "
§خَيْرٌ النَّسَّاجُ وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ خَيْرٌ النَّسَّاجُ، كَانَ مِنْ أَهْلِ سَامَرَّاءَ سَكَنَ بَغْدَادَ وَصَحِبَ أَبَا حَمْزَةَ، وَالسَّرِيَّ السَّقَطِيَّ، لَهُ الْحَظُّ الْجَسِيمُ فِي الْكَرَامَاتِ
سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ، صَاحِبُ الْجُنَيْدِ يَحْكِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ حَضَرَ مَوْتَهُ قَالَ: غُشِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ أَفَاقَ فَنَظَرَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ فَقَالَ: " قِفْ عَافَاكَ اللَّهُ فَإِنَّمَا §أَنْتَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَا أُمِرْتَ بِهِ لَا يَفُوتُكَ وَمَا أُمِرْتُ بِهِ يَفُوتُنِي فَدَعْنِي أَمْضِي لِمَا أُمِرْتُ بِهِ ثُمَّ امْضِ أَنْتَ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَصَلَّى ثُمَّ تَمَدَّدَ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَتَشَهَّدَ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ هَذَا وَلَكِنِ اسْتَرَحْتُ مِنْ دُنْيَاكُمُ الْوَضْرَةِ "
أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ قَالَ: سَأَلْتُ خَيْرًا النَّسَّاجَ: أَكَانَ النَّسْجُ حِرْفَتَكَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتِ: فَمِنْ أَيْنَ سَمَّيْتَ بِهِ؟ قَالَ: " §كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ وَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا آكُلَ الرُّطَبَ أَبَدًا فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي يَوْمًا فَأَخَذْتُ نِصْفَ رَطْلٍ فَلَمَّا أَكَلْتُ وَاحِدَةً إِذَا رَجُلٌ نَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: يَا خَيْرُ، يَا آبِقُ، هَرَبْتَ مِنِّي وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ هَرَبَ اسْمُهُ خَيْرٌ فَوَقَعَ عَلَيَّ شَبَهُهُ وَصُورَتُهُ فَخَنَقَنِي فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ غُلَامُكَ خَيْرٌ، فَبَقِيتُ مُتَحَيِّرًا وَعَلِمْتُ بِمَاذَا أُخِذْتُ وَعَرَفْتُ جِنَايَتِي، فَحَمَلَنِي إِلَى حَانُوتِهِ الَّذِي فِيهِ كَانَ يَنْسُجُ غِلْمَانُهُ وَقَالُوا: يَا عَبْدَ السُّوءِ تَهْرَبُ مِنْ مَوْلَاكَ ادْخُلْ وَاعْمَلْ عَمَلَكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُ، وَأَمَرَنِي بِنَسْجِ الْكِرْبَاسِ فَدَلَّيْتُ رِجْلَيَّ عَلَى أَنْ أَعْمَلَ فَأَخَذْتُ بِيَدِي آلَتَهُ فَكَأَنِّي كُنْتُ أَعْمَلَ مِنْ سِنِينَ فَبَقِيتُ مَعَهُ شَهْرًا أَنْسُجُ لَهُ فَقُمْتُ لَيْلَةً فَتَمَسَّحْتُ وَقُمْتُ إِلَى -[308]- صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَسَجَدْتُ وَقُلْتُ فِي سُجُودِي: إِلَهِي لَا أَعُودُ إِلَى مَا فَعَلْتُ، فَأَصْبَحْتُ وَإِذَا الشَّبَهُ ذَهَبَ عَنِّي وَعُدْتُ إِلَى صُورَتِي الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا فَأُطْلِقْتُ فَثَبَتَ عَلَيَّ هَذَا الِاسْمُ فَكَانَ سَبَبُ النَّسْجِ اتِّبَاعِي شَهْوَةً عَاهَدْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا آكُلَهَا فَعَاقَبَنِيَ اللَّهُ بِمَا سَمِعْتَ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا نَسَبَ أَشْرَفُ مِنْ نَسَبِ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَلَمْ يَعْصِمْهُ وَلَا عِلْمَ أَرْفَعُ مِنْ عِلْمِ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فَلَمْ تَنْفَعْهُ فِي وَقْتِ جَرَيَانِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَلَا عِبَادَةَ أَتَمُّ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ عِبَادَةِ إِبْلِيسَ فَلَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ صَارَ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ تَوْحِيدُ كُلِّ مَخْلُوقٍ نَاقِصٌ بِقِيَامِهِ بِغَيْرِهِ، وَحَاجَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ نَفْسٍ {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15]، عَنْكُمْ وَعَنْ تَوْحِيدِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ {الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، الَّذِي يَقْبَلُ مِنْكَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيُثِيبُ عَلَى مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ "
الصفحة 307