كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)
§أَبُو إِسْحَاقَ الْقَصَّارُ وَمِنْهُمُ الرَّقِّيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَاودَ أَبُو إِسْحَاقَ الْقَصَّارُ، ذُو الْهَمِّ الْمَخْزُونِ وَالْبَيَانِ الْمَوْزُونِ
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْقَصَّارَ الرَّقِّيَّ، يَقُولُ: «§قِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِ هِمَّتِهِ فَإِنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ لِلدُّنْيَا فَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ رِضَاءَ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ غَايَةِ قِيمَتِهِ وَلَا الْوقُوفُ عَلَيْهَا»
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَلِّدِ، يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ إِبْرَاهِيمَ الْقَصَّارَ الرَّقِّيَّ فَقَالَ: هَلْ يُبْدِي الْمُحِبُّ حُبَّهُ؟ أَوْ هَلْ يَنْطِقُ بِهِ؟ أَوْ هَلْ يُطِيقُ كِتْمَانَهُ؟ فَأَنْشَأَ مُتَمَثِّلًا يَقُولُ:
[البحر الطويل]
§ظَفِرْتُمْ بِكِتْمَانِ اللِّسَانِ فَمَنْ لَكُمْ ... بِكِتْمَانِ عَيْنٍ دَمْعُهَا الدَّهْرَ يَذْرِفُ
حَمَلْتُمْ جِبَالَ الْحُبِّ فَوْقِي وَإِنَّنِي ... لَأَعْجَزُ عَنْ حَمَلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ
وَكَانَ يَقُولُ: عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَقُولُ: الْأَبْصَارُ قَوِيَّةٌ وَالْبَصَائِرُ ضَعِيفَةٌ وَأَضْعَفُ الْخَلْقِ مَنْ ضَعُفَ عَنْ رَدِّ شَهْوَتِهِ وَأَقْوَى خَلْقِهِ مَنْ قَوِيَ عَلَى رَدِّهَا، وَكَانَ يَقُولُ: حَسْبُكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئَانِ: خِدْمَةُ وَلِيٍّ وَصُحْبَةُ فَقِيرٍ "
§أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ وَمِنْهُمُ الصُّبَيْحِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ، لَهُ الْعَقْلُ الرَّصِينُ وَالْكَلَامُ الْوَاضِحُ الْمُبِينُ، وَصَحِبَهُ وَالِدِي بِالْبَصْرَةِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى السُّوسِ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ فِي أَحْوَالِ الْقَوْمِ بِعِبَارَاتٍ لَطِيفَةٍ وَإِشَارَاتٍ بَدِيعَةٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَزِمَ سَرِيًّا فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً مُتَعَبِّدًا فِيهَا وَكَانَ يَقُولُ: النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْ أَحْوَالِ الْعَاجِزِينَ، وَالْهُجُومُ عَلَى الْمَوَارِدِ مِنْ أَحْوَالِ السَّائِرِينَ، وَالْخُمُودُ بِالرِّضَا تَحْتَ مَوَارِدِ الْقَضَاءِ مِنْ أَفْعَالِ الْعَارِفِينَ، وَسُئِلَ عَنْ أُصُولِ الدِّينِ، فَقَالَ: إِثْبَاتُ صِدْقِ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ -[355]- وَلُزُومُ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُرُوعُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظُ الْحُدُودِ، وَالرِّضَا بِالْمَوْجُودِ، وَالصَّبْرُ عَنِ الْمَفْقُودِ وَكَانَ يَقُولُ: الرُّبُوبِيَّةُ سَبَقَتِ الْعُبُودِيَّةِ وَبِالرُّبُوبِيَّةِ ظَهَرَتِ الْعُبُودِيَّةُ، وَتَمَامُ وَفَاءِ الْعُبُودِيَّةِ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ وَكَانَ يَقُولُ: ابْتَلَى الْخَلَائِقَ بِأَسْرِهِمْ بِالدَّعَاوَى الْعَرِيضَةِ فِي الْمَغِيبِ فَإِذَا أَظَلَّتْهُمْ هَيْبَةُ الْمَشْهَدِ خَرِسُوا وَانْقَمَعُوا وَصَارُوا لَا شَيْءَ وَلَوْ صَدَقُوا فِي دَعَاوِيهِمْ لَبَرَزُوا عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ كَمَا بَرَزَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْخَلَائِقَ بِقَدَمِ الصِّدْقِ حِينَ طَلَبَ إِلَيْهِ الشَّفَاعَةَ فَقَالَ: «أَنَا لَهَا» لَمْ تَرُعْهُ هَيْبَةُ الْمَوْقِفِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَدَمِ الصِّدْقِ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ إِلَّا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ يَقُولُ:
[البحر البسيط]
يَنْوِي الْعِتَابَ لَهُ مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهِ ... فَإِنْ رَآهُ فَدَمْعُ الْعَيْنِ مَسْكُوبُ
لَا يَسْتَطِيعُ الكَلَامَ حِينَ يُبْصِرُهُ ... كَلَّ اللِّسَانُ وَفِي الْأَحْشَاءِ تَلْهِيبُ
وَلَيْسَ يُخْرِسُ الْأَلْسِنَةَ فِي الْمُشَاهَدَةِ إِلَّا بُعْدُهَا مِنَ الصِّدْقِ، فَمَنْ صَدَقَ فِي الْمَحَبَّةِ تَكَلَّمَ عَنْهُ الضَّمْيِرُ إِذَا سَكَتَ عَنِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ "
الصفحة 354