كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 10)
§ابْنُ مَعْدَانَ وَمِنْهُمْ ذُو الْقَلْبِ الرَّجِيفِ، وَاللُّبِّ الثَّاقِبِ الْحَصِيفِ، وَالنَّفْسِ الذَّائِبِ النَّحِيفِ عَرَفَ مَالِكَهُ عَظِيمًا فَخَنَعَ وَخَضَعَ وَرَاقَبَهُ عَلِيمًا، فَخَشِيَ وَخَشَعَ وَلَاحَظَهُ كَرِيمًا فَرَضِيَ وَقَنَعَ فَابْتَهَلَ إِلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا وَمُفْتَقِرًا وَلَامَحَ صَنَائِعَهُ مُعْتَبِرًا، وَتَنَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْ زَلَلِهِ وَهَفَوَاتِهِ مُعْتَذِرًا مُوقِنًا أَنَّهُ عَلَى قَبُولِهِ مُقْتَدِرًا، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْدَانَ الْمَعْرُوفُ بِالْبَنَّاءِ، وَكَانَ لِلْآثَارِ حَافِظًا وَمُتَّبِعًا لَهُ التَّصَانِيفُ فِي نُسُكِ الْعَارِفِينَ وَمُعَامَلَةِ الْعَامِلِينَ
سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، يَقُولُ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ مِمَّنْ يُقَالُ إِنَّهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ وَكَانَ رَئِيسًا فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كُتُبًا حِسَانًا رَأَيْتُهُ وَسَمِعْتُ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ: " §اعْلَمْ أَنَّ قُلُوبَ الْعُمَّالِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ عَلَى أَرْبَعِ مَنَازِلَ: قَلْبٌ مَعَ اللَّهِ وَقَلْبٌ فِي مِلْكِ اللَّهِ وَقَلْبٌ فِي التَّمْيِيزِ، وَقَلْبٌ فِي الْمُكَابَدَةِ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي مَعَ اللَّهِ فَعَلَامَتُهُ الْمُنَاجَاةُ وَالِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِي مِلْكِ اللَّهِ فَمَرَّةً يَجُولُ فِي الْجَنَّةِ وَمَرَّةً يَجُولُ فِي النَّارِ وَأَمَّا القَلْبَ الَّذِي فِي التَّمَيُّزِ فَيَرَى الصِّرَاطَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْعَرْضَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِي الْمُكَابَدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَرُدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ خَوْفَ الْفَقْرِ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِتَصْحِيحِ الْكَبِيرَةِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ الْمَنَازِلِ مَنَازِلَ الْعُقَلَاءِ، وَالْخَامِسُ قَلْبُ النِّقْمَةِ الشَّيْطَانُ "
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: " §أَسْبَابُ الْمَعْرِفَةِ أَرْبَعَةٌ: حَصَافَةُ الْعَقْلِ وَكَرَمُ الْفِطْنَةِ، وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ، وِبِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ أَقْرَبِ الْأُمُورِ إِلَى الرَّحْمَةِ التَّبَرُّؤُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَالْمَعْرِفَةُ بِأَنَّ التَّبَرُّؤَ مِنْهُ، وَالْمَعْرِفَةَ أَيْضًا هِبَةٌ، وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَشْيَاءِ الْعِلْمُ، وَالْمُبْتَغَى مِنَ الْعِلْمِ نَفْعُهُ فَإِذَا لَمْ يَنْفَعْكَ فَحَمْلُ تَمْرَةٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَمَلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ مِنْهُ فَقَالَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُكَ»، وَقَالَ: «خَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ»، وَالْعِلْمُ يُصَابُ مِنْ عِنْدِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالنَّفْعُ لَا يُصَابُ إِلَّا بِاللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَمَنْفَعَةُ الْعِلْمِ طَاعَتُهُ وَطَاعَتُهُ مَنْفَعَتُهُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ الَّذِي بِهِ أَطَعْتَهُ وَالَّذِي -[403]- لَا يَنْفَعُ هُوَ الَّذِي بِهِ عَصَيْتَهُ وَكَانَ يَقُولُ: قُلُوبُ الْعَارِفِينَ مَسَاكِنُ الذِّكْرِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ رِعَايَةُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ غِذَاءُ الْقَلْبِ وَقَالَ: هِمَمُ الْعَارِفِينَ تَعَالَتْ عَمَّا فِيهِ لَذَّةُ نُفُوسِهِمْ وَاتَّصَلَتْ هُمُومُهُمْ بِمَا فِيهِ الْمَحَبَّةُ لِسَيِّدِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَغْنَاهُمْ وَلَدَى اللَّهِ مَثْوَاهِمْ وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ آمَنَ بِالْقَدُومِ عَلَى مُعْطِي الْخَزَائِنِ وَالْهَدَايَا قَبْلَ مُلَاقَاتِهِ مَلَّكَهُ اللهُ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَقَالَ: إِذَا كَسَى اللَّهُ الْقَلْبَ نُورَ الْمَعْرِفَةِ قَلَّدَهُ قَلَائِدَ الْحِكْمَةِ وَمَنْ كَانَ الصِّدْقُ وَسِيلَتَهُ كَانَ الرِّضَا مِنَ اللَّهِ جَائِزَتَهُ، وَقَالَ: إِنَّ مِنَ التَّوْفِيقِ تَرْكُ التَّأَسُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، وَالِاهْتِمَامَ بِمَا هُوَ آتٍ، وَمَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَةِ "
الصفحة 402