كتاب صحيح ابن حبان - محققا (اسم الجزء: 10)

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْفِقُ عَلَيْهِ أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا (1) مِنْهُ أَبَدًا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي: "مَا عَلِمْتِ وما رأيت؟ " فقالت: أحمي سمعي
__________
= على طرق مختلفة، وأساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه، ولم لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذَفةََ ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهدُ عليهم بما أفَكُوا وبهتوا، وأنه يُوفيهم جزاءهم الحق الواجبَ الذي هم أهله حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين، فأوجز في ذلك، وأشبع، وفصَّل وأجمل، وأكد، وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبَدةِ الأوثان إلا ما هو دونَه في الفظاعة وما ذاك إلا لأمرٍ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه كان بالبصرة يَوْمَ عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سُئِلَ عن هذه الآية فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه، قُبِلَتْ توبتُه، إلا من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيمٌ لأمر الإفك، ولقد برأ الله تعالى أربعةً بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينَها وبَينَ تبرئة أولئك، وما ذاك إلا لإظهار علوِّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيهِ على إنافة محل سَيِّدِ ولد آدم، وخيرةِ الأولين والآخرين، وحُجةِ الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق عظمةَ شأنه صلى الله عليه وسلم، وتقدم قدمه، وإحراَزَه لقصب السبق دونَ كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه.
(1) في الأصل: (أفرغها) ، والمثبت من (التقاسيم) .

الصفحة 21