كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 10)

لِلْأَوْثَانِ، وَجَرَى بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى" مَا" وَمَفْعُولُ يَعْلَمُ مَحْذُوفٌ والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي تَعْلَمُ شَيْئًا نَصِيبًا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" تَفْسِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:" فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «1» " ثم رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ فَقَالَ: (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ) وَهَذَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ. (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أَيْ تَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أمركم بهذا.

[سورة النحل (16): آية 57]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ أَلْحِقُوا الْبَنَاتِ بِالْبَنَاتِ. (سُبْحانَهُ) نَزَّهَ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ اتِّخَاذِ الْأَوْلَادِ. (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) أَيْ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ وَيَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ. وَمَوْضِعُ" مَا" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ" لَهُمْ" وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" سُبْحانَهُ". وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ كَوْنَهَا نَصْبًا، عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَجْعَلُونَ لأنفسهم.

[سورة النحل (16): آية 58]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أَيْ أُخْبِرَ أَحَدُهُمْ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أَيْ مُتَغَيِّرًا، وَلَيْسَ يُرِيدُ السَّوَادَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَيَاضِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَمِّهِ بِالْبِنْتِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا: قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحُزْنًا قال الزَّجَّاجُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ سَوَادُ اللَّوْنِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أَيْ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَمِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَزِينٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ الَّذِي يَكْظِمُ غَيْظَهُ فَلَا يُظْهِرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَغْمُومُ الَّذِي يُطْبِقُ فَاهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْغَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِظَامَةِ وَهُوَ شَدُّ فَمِ الْقِرْبَةِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" يوسف «2» ".
__________
(1). راجع ج 7 ص 89.
(2). راجع ج 9 ص 249.

الصفحة 116