كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 10)

سُلْطَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ:" وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1» " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ". قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، وَقَدْ أَغْوَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِسُلْطَانِهِ، وَقَدْ شَوَّشَ عَلَى الْفُضَلَاءِ أَوْقَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ: مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ؟ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ «2» بَيَانُهُ. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أَيْ يُطِيعُونَهُ. يُقَالُ: تَوَلَّيْتُهُ أَيْ أَطَعْتُهُ، وَتَوَلَّيْتُ عَنْهُ، أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أَيْ بِاللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ" بِهِ" إِلَى الشَّيْطَانِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بن أنس والقتبي. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ. يُقَالُ: كَفَرْتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا. وَصَارَ فُلَانٌ بِكَ عَالِمًا، أَيْ مِنْ أَجْلِكَ. أَيْ والذي تولى الشيطان مشركون بالله.

[سورة النحل (16): الآيات 101 الى 102]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ: الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «3». (قالُوا) يُرِيدُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أَيْ كَاذِبٌ مُخْتَلِقٌ، وَذَلِكَ لِمَا رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَتَبْدِيلَ البعض بالبعض. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)
__________
(1). راجع ج 27 من هذا الجزء فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 348.
(3). راجع ج 2 ص 61 وما بعدها.

الصفحة 176