كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 23)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
ثم ركب شنشول من الزاهرة ومعه سائر أهل الخدمة بسلاحهم ، والوزير وقاضي الجماعة ، والفقهاء والعدول ، وأصحاب الشُّرط ، ووجوه الناس على طبقاتهم . وسار إلى باب القصر بقرطبة ، وحضر المؤيد هشام ، وأخرج كتاباً قُرئ بحضرته وهو بخط الوزير أبي عمر ، وفيه : " بسم الله الرحمن الرحيم . . هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة ، وعاهد الله - عز وجل - عليه من نفسه خاصة ، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة ، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة ، وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمره ، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن ، وخاف نزول القضاء بما لا يُصرف ، وخشي إن هجم محتوم ونزل مقدور به ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوي إليه وملجأ تنعطف عليه . . أن يكون بلقاء ربه - تبارك وتعالى - مفَرطاً فيها ساهياً عن أداء الحقِّ إليها ونقض عند ذلك من طبقات الناس من أحياء قريش غيرها ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته ، بعد اطِّراح الهوى والتحرِّي للحق والتزلُّف إلى الله - جل جلاله - بما يرضيه . بعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحداً هو أجدر أن يقلده عهده ويفوِّض إليه الخلافة بعده ، بفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مركبه وعلو منصبه ، مع تقواه وعفافه ، ومعرفته وإشرافه ، وحزمه وتقاته . . من المأمون الغَيْب الناصح الجيْب ، أبي المطرِّف عبد الرحمن بن محمد المنصور أبي عامر ، وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين - أيده الله - قد ابتلاه واختبره ، ونظر في شأنه واعتبره ، فرآه مسارعاً في الخيرات سابقاً في الحلبات مستولياً على الغايات جامعاً للمأثرات ومن كان المنصور أباه ، والمظفر أخاه . . فلا غرْوَ أن يبلغ من سُبُل البرّ مداه ، ويحوي من سبيل الخير ما حواه . مع أن أمير المؤمنين - أكرمه الله - بما طالع من مكنون العلم ، ودعاه من مخزون الأمر ، أمَّل أن يكون قد ولَّى عهده القحطاني الذي حدَّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلٌ من قحطان يسوق الناس بعصاه . فلما استوى منه الاختيار ، وتقابلت عنده فيه الآثار ، ولم يجد عنه مهرباً ، ولا إلى غيره معدلاً . . خرج إليه من تدبير الأُمور في حياته ، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته ، طائعاً راضياً مستخيراً مجتهداً . وأمضى أمير المؤمنين عهده هذا وأجازه وأنفذه ، ولم يشترط فيه مثْنوية ولا خياراً ، وأعطى على الوفاء به في سره وجَهره وقوله وفِعله عهد الله وميثاقه ودمه وذِمّة نبيه
الصفحة 239
288