كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 23)

"""""" صفحة رقم 263 """"""
بل جعلها دار ملكه ، واستقامت له الأمور ، وأطاعته المدن والثغور ، واجتهد في جهاد الفرنج . وكان له في ذلك القدم المشهور ، ومات محمد في عشر الخمسين وأربعمائة ، وولي بعده ابنه عبّاد .
ذكر ولاية أبي عمرو عباد بن محمد
ولي بعد أبيه وتلقَّب المعتضد بالله ، وكان فيه كرم وبأس . فطابت أيامه ، وحسنت أفعاله ، واستقامت له الأحوال ، ورُفعت له من بلاد الأندلس الأموال . قال : واتفق له واقعة غريبة في سنة سبع وأربعين وأربعمائة ، وهي أنه شرب ليلةً مع رجاله وندمائه فلما عملت فيه الخمر صرفهم وخرج في الليل ومعه رجلٌ واحدٌ من عبيده . وسار نحو قرمونة وهي تبعد عن مدينة إشبيلية ثمانية عشر ميلاً ، وكان صاحب قرمونة إسحاق بن سليمان البرازلي وقد م جرت بينه وبينه حروب . فسار عباد حتى أتى قرمونة ، وكان إسحاق تلك الليلة في جماعةٍ من أهل بيته يشربون ، فدخل عليه بعض خُدَّامه فقال : إن صاحب الحرس ذكر أنَّ المعتضد عبّاداً قائم على باب المدينة ليس معه إلا رجلٌ واحدٌ وهو يستأذن عليك فعجب القوم من ذلك غاية العجب ، وخرج إسحاق ومن عنده إلى باب المدينة فسلَّم على عباد وأدخله إلى القصر ، وأمر بتجديد الطعام والشراب . فلما شرع في الأكل تذكر ما فعل فسقط في يده ولم يطق أن يسفه ، وندم على ما صنع لما يعلم بينه وبين برزال من الحرب وسفك الدماء ، فأظهر التجلُّد والانشراح ثم قال لإسحاق : أريد أن أنام فرفعه على الفراش ، فأراهم عبّاد أنه نائم ، فقال بعض القوم لبعض : هذا كبشٌ سمينٌ حصل لكم ، والله لو أنفقتم عليه مُلك الأندلس ما قدرتم على حصوله في أيديكم ، وهو شيطان الأندلس وإذا قتل خلصت لكم البلاد فقام معاذ بن أبي قرَّة وكان من كبرائهم فقال : والله لا فعلنا هذا ولا رضينا به ، رجلٌ قصدنا ونزل بنا ، ولو علم أنَّا نرضى فيه بقبيح لما أتانا مستأمنا إلينا ، كيف تتحدث القبائل عنَّا أننا قتلنا ضيفنا وخَفَرنا ذِمَّتنا ، فعلى من يرضى هذا لعنة الله وهو يسمع فنزل عن السرير فقام القوم بأجمعهم فقبّلوا رأسه وجددوا السلام عليه فقال لحاجبه : أين نحن ؟ قال : في منزلك وبين أهلك وإخوانك قال : إئتوني بدواة وقرطاس .
فأتوه بهما ، فكتب أسماء القوم ، وكتب لكلِّ واحدٍ بخلعةٍ ودنانير وأفراسٍ وعبيد وجوارٍ ، وأمر أن يرسل كلُّ واحدٍ منهم رسولاً ليقبض ذلك . ثم ركب وخرج القوم

الصفحة 263