كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 24)

"""""" صفحة رقم 145 """"""
يعانده أحد من أهل تلك النواحي لهيبته في نفوسهم وعظم ذكره بالمغرب . وملك المدائن المتصلة بالبحر مثل سبتة وسلا وطنجة وغيرها . وكثرت أمواله وجنوده . وخرج إليه جماعة لمتونة وكثير من القبائل . وضيق لثامه هو وجماعته .
ذكر ما قيل في سبب لثام المرابطين
قيل : إنهم كانوا في الصحراء يتلثمون لشدة الحر والبرد كما يفعل العرب في البرية ، والغالب على ألوانهم السمرة . فلما ملكوا البلاد ضيقوا ذلك اللثام .
وقيل : إن طائفة منهم من لمتونة في الصحراء خرجوا للإغارة على عدوهم . فخالفهم العدو إلى بيوتهم ، ولم يكن بها إلا الصبيان والمشايخ والنساء . فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب رجالهن ، ويعممن بالعمائم ، ويسترن وجوههن باللثام ، وأن يضيقنه حتى لا يعرفن . ففعلن ذلك ولبسن السلاح . وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدرن هن بالبيوت . فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً هاله وقال : هؤلاء حول حريمهم يقاتلون عليه قتال نخوة وقد ترجلوا للموت . والرأي أن نسوق النعم ونمضي . فإن تبعونا قاتلناهم خارج البيوت . فبينما هم في جمع النعم من مراعيها إذ أقبل رجال الحي ، فصار العدو بينهم ، فقتلوا شر قتلة ولم يسلم منهم إلا القليل . وقتل النساء منهم أكثر مما قتل الرجال . فاستنّوا اللثام من ذلك الوقت . فلا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً حتى إن الرجل لا يأكل ولا يشرب مع أهل إلا من تحت اللثام والمقتول منهم في المعركة لا يعرفه أصحابه بوجهه بل بلثامه .
قال ابن شداد : ومما رأيت أنه كان لي صديق منهم بدمشق فأتيت يوماً إلى زيارته . فدخلت إليه وقد غسل عمامته ، وسراويله مشدودة على رأسه ، وقد تلثم بخلخاله . هذا بعد أن انقضت دولتهم ، وتفرقت جملتهم ، وتغربوا في البلاد .
قال : ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى شيخاً من الملثمين بالمغرب بعد انقضاء الدولة ، منزوياً في ضفة نهر ، يغسل خلقانه وهو عريان ، وعورته بارزة ، ويده اليمنى يغسل بها والأخرى يستر بها وجهه . فقال له : استر عورتك بيدك . فقال : أنا ملثم بها .

الصفحة 145