كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 24)

"""""" صفحة رقم 156 """"""
فقويت عند ذلك نفس المهدي ثم أرسل أمير المسلمين جيشاً كثيفاً . فحصرهم في الجبل وضيق عليهم ومنع عنهم الميرة . فقلّت الأقوات عند أصحابه ، فكان يطبخ لهم الحساء في كل يوم ، وجعل قوت الرجل منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها ، فما علق عليها فهو قوته في ذلك اليوم . فاجتمع أهل تينمل وأرادوا إصلاح حالهم مع أمير المسلمين فبلغه ذلك فأعمل من الحيلة عليهم ما نذكره .
ذكر خبر أبي عبد الله الونشريسي
قال : كان مع المهدي إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريسي ، وهو يظهر الوله وعدم المعرفة بشيء من العلم والقرآن ، وبصاقه يجري على صدره ، وهو كالمعتوه ، والمهدي يقربه ويكرمه ويقول : إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر . هذا والونشريسي يشتغل بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم به أحد .
فلما كان في سنة تسع عشرة وخمسمائة ، خاف المهدي من أهل الجبل . فخرج يوماً لصلاة الصبح ، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً طيب الرائحة ، فأظهر أنه لا يعرفه وقال : من هذا ؟ قال : أنا أبو عبد الله الونشريسي . فقال له المهدي : إن أمرك لعجيب . ثم صلى . فلما فرغ من صلاته نادى في الجبل . فاجتمع الناس وحضروا إليه . فقال لهم : إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريسي ، فانظروه وحققوا أمره . فلما أضاء النهار عرفوه . فقال له المهدي : ما قصتك ؟ قال : " إنني أتاني الليلة ملك من السماء ، فغسل قلبي ، وعلمني القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث " . فبكى المهدي بحضرة الناس ثم قال : نمتحنك ؟ فقال : افعل . وابتدأ بقراءة القرآن فقرأه قراءة حسنة من أي موضع سئل . وكذلك الموطأ وغيره وكتب الفقه والعلوم والأصول . فعجب الناس من ذلك واستعظموه . ثم قال : إن الله قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار ، وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة . قد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر الفلانية يشهدون بصدقي . فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر . ووقف عند رأسها وصلى وقال : يا ملائكة الله ، إن أبا عبد الله قد زعم كيت وكيت . فسمع من أسفل البئر : صدق ، صدق وكان قد رتب بها رجالاً يفعلون ذلك . فلما تكلموا قال المهدي : إن هذه البئر بئر مطهّرة مقّدسة قد نزل إليها الملائكة ، والمصلحة أن تطمّ لئلا يقع فيها نجاسة . فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طّمها .

الصفحة 156