كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 24)

"""""" صفحة رقم 174 """"""
وساروا معه حتى انتهوا إلى مضيق جبل زغوان . وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالك ، وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيهم . فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سراً : إن العرب قد كرهت السير إلى الأندلس وقالوا : ما غرض عبد المؤمن إلا إخراجنا من بلادنا ، وإنهم لا يفون بأيمانهم . فقال : يأخذ الله تعالى الغادر . فلما كانت الليلة الثانية ، هربوا إلى عشائرهم ودخلوا لابر ، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك ، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق . ولم يحدث في أمرهم شيئاً .
وسار مغرباً يحث السير حتى قرب من القسنطينة ، ونزل في موضع مخصب يقال له وادي النساء . فأقام به وضبط الطرق فلا يسير أحد البتة ودام هناك عشرين يوماً . وانقطع خبره عن جميع الناس لا يعرفون للعسكر خبراً مع كثرته وعظمه ، ويقولون : ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس . فعادت العرب الذين أجفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه .
فلما علم برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألفاً من أعيان الموحدين وشجعانهم . فجدوا السير وقطعوا المفاوز . فما شعرت العرب إلا والجيش قد أقبل ، وجاء من ورائهم من جهة الصحراء من يمنعهم من الدخول إليها ، وكانوا قد نزلوا جنوباً من القيروان عند جبل القرن ، وهم زهاء ثمانين ألف بيت ، ومشاهير مقدميهم محرز بن زياد وجبارة بن كامل ومسعود بن زمام وغيرهم . فلما أطلت عليهم العساكر اضطربوا وماجوا واختلفت كلمتهم . ففر مسعود وجبارة ومن معهما من عشائرهما . وثبت محرز بن زياد ومعه جمهور العرب . فناجزهم الموحدون القتال . وذلك في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين . واشتد القتال وكثرت القتلى . فانجلت الحرب عن قتل محرز وانهزم العرب .
ولما انهزموا أسلمو البيوت والحريم والأولاد والأموال . فحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بتلك المنزلة . فأمر بحفظ النساء العربيات الصّرائح . وحملن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد المغرب . ثم أقبلت إليه وفود رياح ، فأجمل لهم الصنيع ورد إليهم الحريم . فلم يبق منهم إلا من صار له كالعبد الطائع ، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان . ثم جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول .

الصفحة 174