كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 24)

"""""" صفحة رقم 176 """"""
فبتنا على مرحلة من بجاية . فلما أصبح الصباح فقدت شدّة من المتاع ، فحمدت الله وسألته الخلف . ودخلنا البلد وبعت المتاع أحسن بيع وأفدت فيه فائدة كبيرة . فقلت لصاحب الحانوت الذي بعت على يديه : فقدت من هذا المتاع شدة ، وأخلف الله على في الباقي . فقال لي : وما أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد المؤمن ؟ قالت : لا . قال : والله ، إن علم ذلك من غيرك لحقك الضرر بسترك على المفسدين . فاتق الله في نفسك . فرحت إلى القصر واستأذنت عليه وأعلمته . ثم خرجت فسألني خادم عن منزلي فوصفته له . ورجعت إلى صاحب الحانوت فأخبرته . فقال : خرجت من العهدة .
فلما كان صبيحة اليوم الثالث من وصولي إليه ، جاءني غلام أسود فقال : أجب أمير المؤمنين . فخرجت معه . فلما وصلنا باب القصر وجدت جماعة كبيرة والمصامدة دائرة عليهم بالرماح . فقال الأسود " تعلم من هؤلاء ؟ " قلت : لا . قال : هم أهل المكان الذي أخذ متاعك فيه . فدخلت وأنا خائف ، فأجلست بين يديه . واستدعى مشايخهم وقال لي : كم صح لك في الشدة التي فقدت أختها . فقلت : كذا وكذا . فأمر من وزن لي المبلغ ثم قال لي : قم . أنت أخذت حقك وبقي حقي وحق الله عز وجل . وأمر بإخراج المشايخ وقتل الجميع . وقال : هذه طريق شوك أزيلها عن المسلمين . فأقبلوا يبكون ويتضرعون ويقولون : يؤاخذ سيدنا الصلحاء بالمفسدين ؟ فقال : نخرج كل طائفة منكم من فيها من المفسدين . فصار الرجل يخرج ولده وأخاه وابن عمه إلى أن اجتمع منهم نحو خمسمائة فأمر أهلهم أن يتولوا قتلهم ، ففعلوا ذلك . وخرجت أنا إلى صقلية خوفاً على نفسي من أولياء المقتولين .
قال : وكان عبد المؤمن لا يداهن في دولته ، ويأخذ الحق من ولده إذا وجب عليه .
قال : ولا مشرك في بلاده ولا كنيسة في بقعة منها ، لأنه كان إذا ملك بلداً إسلامياً لم يترك فيه ذمياً إلا عرض عليه الإسلام . فمن أسلم سليم ، ومن طلب المضي إلى بلاد النصارى أذن له في ذلك ، ومن أبى قتل . فجميع أهل مملكته مسلمون لا يخالطهم سواهم .
ولا لهو ولا هزل تحت أمره بل تلاوة كتاب الله العزيز ، ومدارسة الأحاديث الصحيحة النبوية ، والاشتغال بالعلوم الشرعية ، وإقام الصوات . فهذا كان دأب أصحابه .

الصفحة 176