كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم.
ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم.
وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه.
وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.
ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال، إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله الرضا، فإن قال رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا استطابة ليس كاستطابة المخلوقين.
وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب.
ثم قال: وأما ذكر يوم القيامة في الحديث فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلباً لرضاء الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر وفي بعض الروايات كما خص في قوله تعالى: {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} وأطلق في باقيها نظراً إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين.
قلت من العجب رده على أبي محمد بما لا ينكره أبو محمد وغيره، فإن الذي فسر به الاستطابة المذكورة في الدنيا بثناء الله تعالى على الصائمين ورضائه بفعلهم أمر لا ينكره مسلم، فإن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وفيما بلغه عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي بفعله، فإن كانت هذه هي الاستطابة فيرى الشيخ أبو محمد [لا] ينكرها.
والذي ذكره الشيخ أبو محمد أن هذه الرائحة إنما يظهر طيبها على طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشهيد ويكون كرائحة المسك، ولا ريب أن ذلك يوم القيامة فإن الصائم في ذلك اليوم يجيء ورائحة فمه أطيب من رائحة المسك كما يجيء المكلوم في سبيل الله عز وجل ورائحة دمه كذلك، لا سيما والجهاد أفضل من الصيام، فإن كان طيب رائحته إنما يظهر يوم القيامة فكذلك الصائم.
وأما حديث جابر فإنه يمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك، فهذه جملة حالية لا خبرية، فإن خبر إمسائه لا يقترن بالواو لأنه خبر مبتدأ فلا يجوز اقترانه بالواو.
وإذا كانت الجملة حالية فلأبي محمد أن يقول: هي حال مقدرة، والحال المقدرة يجوز تأخيرها عن زمن الفعل العامل فيها، ولهذا لو صرح بيوم القيامة في مثل هذا فقال: يمسون وخلوف أفواههم

الصفحة 29