كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

برقاً يكاد يخطف البصر، ورعداً عظيماً وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه، فوضع أصابعه في أذنيه لئلا يسمع صوت الرعد، وهاله ذلك البرق وشدة لمعانه وعظم نوره فهو خائف أن يختطف معه بصره، لأن بصره أضعف من أن يثبت معه، فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف، ويرى ذلك البرق الخاطف، فإن أضاء له ما بين يديه مشى في ضوئه، وأن فقد الضوء قام متحيراً لا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة الأرض والنبات وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعداً وبرقاً وظلمة ولا شعور له بما وراء ذلك، فالوحشة لازمة له، والرعب والفزع لا يفارقه، وأما من أنس بالصيد وعلم أنه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم، أستأنس بذلك ولم يستوحش منه، ولم يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من الصيب.
فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند رب العالمين تبارك وتعالى على قلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحيي به القلوب والوجود أجمع، اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيب من الماء، حكم بالغة وأسباباً منتظمة نظمها العزيز الحكيم.
فكان حظ المنافق من ذلك الصيب سحابه ورعوده وبروقه فقط، لم يعلم ما وراءه فاستوحش بما أنس المؤمنين، وارتاب بما اطمأن به العالمون، وشك فيما يتقيه المبصرون العارفون، فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش نحو الظهيرة، وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد، وقد ذكر عن بعض الحيوانات أنها تموت من سمع الرعد.
وإذا صادف هذه العقول والأسماع والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، حالت فيها وصالت، وقامت بها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر بها قيلها وقالها، فملأت الأسماع من هذيانها، والأرض من دواوينها، وما أكثر المستجيبين لهؤلاء والقابلين منهم والقائمين بدعوتهم والمحامين عن حوزتهم والمقاتلين تحت ألويتهم والمكثرين لسوادهم.
ولعموم البلية هم وضرر القلوب بكلامهم هتك الله أستارهم في كتابه غاية الهتك وكشف أسرارهم غاية الكشف، وبين علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم، ولم يزل عز وجل يقول: (ومنهم.. ومنهم.. ومنهم) حتى انكشف أمرهم، وبانت حقائقهم وظهرت أسرارهم.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة أوصاف المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في أوصاف المؤمنين ثلاث آيات، وفي أوصاف الكفار آيتين، وفي أوصاف هؤلاء بضع عشرة

الصفحة 56