كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

آية، لعموم الابتلاء بهم وشدة المصيبة بمخالطتهم، فإنهم من الجلدة، مظهرون الموافقة والمناصرة، بخلاف الكافر الذي قد تأبد بالعداوة وأظهر السريرة ودعا لك بما أظهره إلى مزايلته ومفارقته.
ونظير هذين المثلين المذكورين في سورة الرعد في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً} فهذا هو المثل المائي شبه الوحي الذي أنزله بحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء، وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علماً عظيماً كواد كبير يسع ماء كثيراً، وقلب صغير كواد صغير يسع علماً قليلاً، فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.
ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل فيحتمله السيل فيطفوا على وجه الماء زبداً عالياً، يمر عليه متراكباً، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والشجر والدواب، والغثاء يذهب جفاء يجفي ويطرح على شفير الوادي.
فكذلك العلم والإيمان الذي أنزله في القلوب فاحتملته فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة يطفو في أعلاها، واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلب فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئاً فشيئاً حتى يزول كله، ويبقى العلم النافع والإيمان الخالص في جذر القلب يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون.
وفي الصحيح من الحديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم.
ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به»

الصفحة 57