كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالنسبة إلى الهدي والعلم ثلاث طبقات.
(الطبقة الأولى) ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهؤلاء أتباع الرسل ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ حقاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها وزكا الناس بها.
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة ولذلك كانوا ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال تعالى فيهم {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} ، [أي] البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم واستنبطت منها كنوزها ورزقت فيها فهماً خاصاً، كما قال أمير المؤمنين على أبن أبي طالب ـ وقد سئل: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء دون الناس؟ فقال: ـ لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن.
(الطبقة الثانية) فإنها حفظت النصوص وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ووردها كل بحسبه {قد علم كل أناس مشربهم} وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبلغ نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه سمعت، ورأيت وسمع الكثير من الصحابة وبورك في فهمه والاستباط منه حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً.

الصفحة 58