كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتاويه في سبعة أسفار كبار.
وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم أبن عباس كالبحر، وفقه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس.
وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} وأين تقع فتاوى أبن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درساً فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وبلغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.
وهكذا الناس بعده قسمان.
(قسم حفاظ) معتنون بالضبط والحفظ والأداء كما سمعوا.
ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه.
وقسم معتنون بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقه فيها.
فالأول كأبي زرعة وأبي حاتم وابن دارة.
وقبلهم كبندار ومحمد بن بشار وعمرو الناقد وعبد الرزاق، وقبلهم كمحمد بن جعفر غندر وسعيد بن أبي عروية وغيرهم من أهل الحفظ والاتقان والضبط لما سمعوه، من غير استنباط وتصرف وأستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص.
(والقسم الثاني) كمالك والشافعي والاوزاعي وإسحق والإمام أحمد بن حنبل والبخاري وأبي داود ومحمد بن نصر المروزي ـ وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية ـ فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الذين قبلوه ورفعوا به رأساً.
وأما (الطائفة الثالثة) ـ وهم أشقى الخلق الذين لم يقبلوا هدي الله ولم يرفعوا به رأساً ـ فلا حفظ ولا فهم ولا رواية ولا دراية ولا رعاية.
(فالطبقة الأولى) أهل رواية ودارية.
(والطبقة الثانية) أهل رواية ورعاية ولهم نصيب من الدراية، بل حظهم من الرواية أوفر.

الصفحة 59