كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب

(والطبقة الثالثة) الأشقياء لا رواية ولا دراية ولا رعاية {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} ، فهم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، إن همة أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته كان همه ـ مع ذلك ـ لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية، فإن ارتفعت همته عن نصرة النفس [الغضبية كان همه في نصرة النفس] الكلبية فلم يعطها، إلى نصرة النفس السبعية فلم يعطها أحد من هؤلاء فإن النفوس كلبية وسبعية وملكية.
فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة، والسبعية لا تقنع بذلك بل بقهر النفوس، تريد الاستيلاء عليها بالحق والباطل.
وأما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك وشمرت إلى الرفيق الأعلى، فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى والإنابة إليه وإيثار محبته ومرضاته، وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذ من لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها، لا لتنقطع به عنه.
ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلاً ثانياً وهو المثل الناري فقال: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله} وهذا كالحديد والنحاس والفضة والذهب وغيرها، فإنها تدخل الكير لتمحص وتخلص من الخبث، فيخرج خبثها فيرمى به ويطرح، ويبقى خالصها فهو الذي ينفع الناس.
ولما ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حكم من استجاب له ورفع بهداه رأساً، وحكم من لم يستجب له ولم يرفع بهداه رأساً، فقال: {للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد} والمقصود أن الله تعالى جعل الحياة حيث النور، والموت حيث الظلمة، فحياة الوجودين الروحي والجسمي بالنور، وهو مادة الحياة كما أنه مادة الإضاءة، فلا حياة بدونه كما لا إضاءة بدونه، وكما به حياة القلب فيه انفساحه وانشراحه وسعته، كما في الترمذي «عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: وما علامة ذلك؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .
ونور العبد هو الذي يصعد عمله وكلمه إلى الله تعالى، فإن الله تعالى لا يصعد إليه من الكلم إلا الطيب، وهو نور ومصدر عن النور.
ولا من

الصفحة 60