كتاب رد الجميل في الذب عن إرواء الغليل

بالختان لاشتُهِرَ هذا، ونُقِلَ بالطرق الصحيحة الثابتة، لا بمثل هذه الطرف الضعيفة".
وهذا تعليل عليل، وليتك ما ذكرته، فإن ما تنقله عن غيرك تقليدًا خير مما تبتدعهُ من نفسك! فإن العرب كانوا يختتنون قبل الإسلام، وقد روى البخاري في قصة هرقل وفيه: "فَبَيْنَمَا هُمْ على أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عن خَبَرِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قال: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هو أَمْ لاَ؟ فَنَظَرُوا إليه فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسأَلَهُ عن الْعَرَب فقال: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فقال هِرَقْلُ: هذا مُلْكُ هذه الأمة قد ظَهَرَ" (¬1).
ومن هنا: لم يستفض هذا الحديث ومثله، مثل أحاديث كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما لم ينقلها إلا الواحد بعد الواحد.
ثم نقلتَ عن الحسن البصري قوله: "قد أسلم الناس الأسود والأبيض، ولم يفتش أحد منهم ولم يختنوا".
ألم يكن الأولى بك النقل عن حبر الأمة ابن عباس، فقد روى البيهقي في "سننه": وأخبرنا عبد الرزاق عن ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لا تقبل صلاة رجل لم يختتن" (¬2)، وهذه الفتوى موافقة للحديث، وهذا هو منهج الأئمة حقًّا: تقوية الحديث بآثار الصحابة - رضي الله عنه -، فإنهم كما قال ابن القيم رحمه الله: "هذا فِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنَّا، أَمَّا الْمَدَارِكُ التي شَارَكْنَاهُمْ فيها من دَلالاتِ الألفاظ، والأقيسة؛ فَلا رَيْبَ أنهم كَانُوا أبرَّ قُلُوبًا وأعمق عِلْمًا، وأقلَّ تَكَلُّفًا، وأقرب إلَى أن يُوَفَّقُوا فيها لِمَا لم نُوَفَّقْ له نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من تَوَقُّدِ الأَذْهَانِ، وفَصاحَة اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الأَخْذِ، وَحُسْنِ الإِدْرَاكِ، وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ، أو عدمه، وَحُسْنِ الْقَصدِ، وَتَقْوَى
¬__________
(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 9).
(¬2) انظر: "سنن البيهقي الكبرى" (8/ 325)، والسنن الصغرى (نسخة الأعظمي): (7/ 398).

الصفحة 116