كتاب عبد الوهاب خلاف الفقيه الأصولي المجدد

وأما بالنسبة إلى الأحكام الدنيوية فيفرّقُ بين النسيان فيما هو من حقوق
اللّه: كالعبادات وما هو من حقوق الناس: كالمعاملات. فأما ما هو من
حقوق اللّه كالصلاة والصيام وسائر العبادات؟ فإذا كان النسيانُ فيه مع وجود
مذكر ينبهه من الغفلة يعتبرُ الإنسان او الناسي مقصّراً، ولا يُعْذَرُ بنسيانه.
وأما إذا كان النسيانُ حيث لا يوجَدُ مذكر، فإنّه لا يعتبَرُ الناسي مقصِّراً،
ويعذرُ بنسيانه، ولهذا إذا اكل المصلي في أثناء الصلاة ناسياً، او تكلّم
بكلا! خارجٍ ناسياً لا يعذرُ بنسيانه، وتفسدُ صلاته؟ لأن حالَ الصلاة من قيام
وقعود وركوع وسجود واستقبال قبلة مذكم، فالنسيانُ مع هذا المذكر غفلةٌ
عن تقصير فلا يعذر به. وأما إذا أكل الصائمُ او شِربَ في نهاره ناسياً، فإنّه
لا يَفْسُدُ صومه؟ لا! الطعامَ والشرابَ تدعو الإنسان إليهما طبيعتُه. والصومُ
عبادةٌ سلبية ليس له حال ظاهرة تذكر به. فإذا نسيه الإنسان إجابةً لداعي طبعِهِ
وحاجته لا يعتبَرُ مقصراً وبُعذَرُ.
وامّا ما هو من حقوق الناس كالمعاملات والجنايات وسائر التصرفات
ف! ن النسيان لا يعتبر فيها عُذراً؟ لأنَّ معاملات الناس تبنى أحكامها على
عباراتهم وظواهر أحوالهم، لا على نياتهم وإراداتهم؟ لأنَّ البواطن والنوايا
لا يعلمُها إلا اللّه، ولو اعتبر النسيان عذراً في معاملات الناس لفُتح بابُ
الإدعاء بالباطل، وعرِّضت حقوق الناس للإضاعة، فمَنْ عقدَ ايَّ عقد، ا و
تصرّف أي تصرف، أو التزم اي التزامٍ ترتب على عقده وتصرفه والتزامه
اثره، لا يقبل اعتذاره بأنّه باع ناسياً، أو وقف ناسياً، أو قبل ناسياً، ومن
اتلفَ مالَ غيره فعليه ضمانه، ولا يقبل اعتذاره بأنه أتلفه ناسياً. . والاساسُ
لهذه الأحكام أنَ الناس في معاملاتهم يؤاخذون بعباراتهم وظاهر أعمالهم
وانّ قبول الاعتذار في حقوق الناس بالنسيان يعرِّضُ الحقوق إلى الضياع،
ولهذا لا يقبل الاعتذار بالنسيان في القوانين الوضعية؟ لا! القوانين الوضعية
تحكم في معاملات الناس وحقوقهم، ولا تحكم في عبادات الناس،
ولا تتعرّض للناحية الأخروية، ولهذا لا اثر لعارض النسيان في حكم من
أحكامها.
154

الصفحة 154