كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب

انتهى الأمر إلى ابن الأثير قبل الشعراء الثلاثة أبا تمام والبحتري والمتنبي - على إدراك للتفاوت بينهم - ليتخلص من الشعر القديم جملة؛ ولكن من يقرا " منهاج البلغاء " لحازم يحس انه يضع قواعده النقدية وضعاً جديداً وفي ذهنه أن " المثل الأعلى " للشعر هو المتنبي؛ ولسنا ندري هل كان من حسن حظ النقد الأدبي عند العرب أو من سوء حظه أن جميع المشكلات الهامة التي أثارت كبريات القضايا النقدية قد انطلقت في دور مبكر قصير المدى، واعني بالمشكلات: مسالة الأصالة والانتحال والقدم والحداثة والخصوصة حول طريقتين في الشعر، ومحاولة حل مسألة الأعجاز؟ الخ حتى أصبحت الإجابة على القضايا مجتمعة (مثل قضية اللفظ والمعنى والمطبوع والمصنوع وقواعد الموازنة؟ الخ) من نصيب النقاد في القرن الثالث، وما كان نصيب القرن الرابع إلا زيادة التمرس بها. بحيث أن القاضي الجرجاني عندما أراد ان يشارك في الميدان النقدي وجد جميع الأدوات جاهزة لديه فلم يكن دوره في الحقيقة سوى أن يحسن استخدامها؛ أقول لا ندري بعد المتنبي لم يعد يستطيع إلا تفسيراً جديداً لجزئيات صغيرة أو وقفة مطولة عند قضية دون أخرى، وكثيراً ما أصبحت حيوية النقد بعد ذلك تعتمد على شخصية الناقد نفسه (وأبرز مثل على ذلك ابن رشيق وابن الأثير) باستثناء حازم الذي عاد يستعمل أدوات متباينة مختلفة في منطلق جديد، إلا انه كما قلنا كان قد جعل من المتنبي محوراً لفهم طبيعة الشعر ولم يستطع معاصروه ولا من جاء بعدهم أن يدركوا خطورة حركته الإصلاحية لتباعد الشقة بين القاعدة والأمثلة التي كانوا يمارسونها. وقد يكون المتنبي رسم فعلاً خطاً فاصلاً في الشعر العربي ووقف وحده وقفة شاهرة. ولكنه في الوقت نفسه اثبت عجز النقد ودورانه حول نفسه لا لان الأدوات النقدية عجزت عن ان تفسر كنه تفوقه، وحسب، بل لان هذا النقد نفسه لم يستطع أن يقيم أية علاقة بينه وبين مختلف المستويات الشعرية بعد المتنبي (قبولاً أو رفضاً) .

الصفحة 17