كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب

ولكن الحاجة إلى ناقد ذي منهج وقدرة على الفحص إنما أثارها ابن سلام لأول مرة حين اصطدم بقضية الانتحال؛ ويمكن أن نطور فكرة ابن سلام فلا نراها تقف عند حد الشعر القديم، وإنما سيظل الانتحال موجوداً على مر الزمن وستظل الحاجة إلى هذا الناقد ملحة كذلك؛ ولكن ابن سلام كان يرى المشكلة في الشعر القديم دون سواه، لتوثيق ذلك الشعر كي يظل صالحاً أولاً لرسم الفوارق بين شاعر وآخر على أساس من الصحة في نسبة الشعر، وثانياً لان هذا الشعر مصدر هام من مصادر اللغة والثقافة. ولكن " ناقد " ابن سلام لم يميز بشيء سوى البصيرة، وهذه البصيرة تأتي من رواية النماذج الصحيحة وحفظها ومن ثم تتربى ملكة النقد والتمييز لديه، فالناقد لدى ابن سلام ما يزال " راوية " حصيفاً مثل خلف الأحمر.
إذن فإن ازدواجية المشكلة هي التي خلقت الحاجة إلى ناقد بصير، أي أن الناقد كان - كما كان من قبل - حكماً ترضى حكومته؛ فلما نشأت مشكلة الترجيح بين أبي تمام والبحتري زادت سلطات هذا الناقد حتى اصبح هو الحكم الوحيد أو هم " المستبد " الذي يقول فيؤمن الآخرون على قوله، دون أن يسألوه: لم؟ وكيف؟ إلا أن شاء هو ان يبين لهم ذلك. لم يعد الناقد " راوية " بصيراً، لان الثقافة وحدها لا تصنع ناقداً، إنما الناقد امرؤ " متخصص " كما هي الحال البناء أو العارف بشئون الخيل أو الخبير في شئون السلاح. فكل منهم يسلم له قوله في صنعته، وكذلك يجب أن يسلم الأمر للناقد، ولا يرد عليه حكمه. والسر في رفع شان الناقد لدى الآمدي هو قضية الموازنة، إذ على الرغم من أن الآمدي حاول أن يقيم موازنته على أسس محسوسة (كأسس البناء وصاحب الخيل وصاحب السلاح) إلا أن الموازنة - كل الموازنة - تبلغ بصاحبها حد الإحالة على عموميات مثل: طريقة العرب. الذوق المألوف؟ الخ؛ وحينئذ يتحول الناقد الذي ظنه الآمدي " عالماً " إلى " كاهن " يحدس بتيارات خفية؛

الصفحة 19