كتاب تاريخ النقد الأدبي عند العرب

بل إنه لو جاز للآمدي أن يسمي ناقده " كاهناًً " - واحداً من كهان الجاهلية - يدرك اللا منظور من وراء المنظور لما تردد في ذلك؛ ولو قيل للآمدي: هذا ناقد آخر يخالفك في الحكم ويرى رجحان أبي تمام علي البحتري لكان الجواب الحاضر لديه: لكنه ليس بناقد؛ ولهذا تم التطابق بين الآمدي والناقد " المستبد " حتى أصبح الآمدي عند نفسه رمزاً للناقد الذي استشرفت إليه العصور.
وقد لقيت صورة هذا الناقد هذا الناقد الذي لا يعترض على مقراراته وآرائه قبولاً كبيراً وخاصة لدى الباحثين في مشكلة الاعجاز؛ ذلك هذه المشكلة إلا دقيقة لم تعد سؤالاً عن الموازنة بين الجودة وعدم الجودة - كما هي الحال في الشعر الإنساني - وغنما كانت سؤالاً عن الجودة المطلقة في جهة، بالنسبة لكل درجات الجودة في إنشاء الىدميين، أي أنها زادت من درجة الحاجة للاطمئنان إلى شخص يصدع بحكم لا يجوز أن يواجه بأدنى اعتراض؛ وقد وضعت مشكلة الأعجاز النقد الأدبي كله على أبواب " منطقة اللا تعليل " فكبرت الناقد كثيرا وأوقعت النقد في حيرة لم يستطع الفكاك منها؛ ولهذا عاد الباقلاني إلى ناقد الآمدي فمنحه أسمى منزلة، بعد أن استنفد راي الآمدي في روعة التأليف؛ وعاد عبد القاهر يحاول أن يبسط التعليل في مستويات الجودة في الآدميين، شاعراً انه هو الناقد الذي يستطيع أن يحل المشكلة، ورغم براعته الفائقة في التحلي والتعليق فإنه لم يستطع أن يمس فكرة الأعجاز غلا لماماً. ومرة أخرى وجد القاضي الجرحاني ملاذه لدى " ناقد " الآمدي، لأنه حين أقر - شأنه شأن القاضي المنصف - بسيئات المتنبي وأقام بينه وبين الشعراء الآخرين نسبة معقولة من القرابة والمشابه، وقف عند الباب المغلق وهو القدرة على إبراز النواحي الإيجابية أو الكشف عن حقيقة الروعة في شعر المتنبي، فاطمأن إلى حكم الناقد الذي يجب أن يؤخذ قوله بالقبول إذا هو قال إن هنالك روعة لا تحد، وكفى.

الصفحة 20