كتاب العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ويليه الأعلام العلية - ابن عبد الهادي والبزار - ت العمران - ط عالم الفوائد (اسم الجزء: 1)
ولقد بالغ معي حال إقامتي بحضرته في التواضع والاكرام، حتى إنه لا
يذكرني باسمي، بل يلقبني بأحسن الالقاب، ويظهر لي خصوصا بين
أصحا بي من الاكرام والتبجيل والادناء منه، بحيث لا يتركني أجلس إلا
إلى جانبه، قصيرا كان مجلسه أو طويلا، خاصا أو عاما. ولازمني في حال
قراء تي " صحيح البخاري ". وكان قصدي قراءته على راويه منفردا،
لاستصغاري نفسي عن القراءة هناك بمحضر من الناس، ولقصدي تعجيل
فراغي منه انتهازا للفرصة، وخوفا من فوات ذلك الشيخ الراوي، لكونه
تفرد بروايته سماعا على أصحاب أبي الوقت السجزي.
فلما سمع الشيخ بذلك ألزمني قراءته بمجمع كثير من الناس رجالا
ونساء وصبيانا. وقال: ما ينبغي إلا على صفة يكون نفعها متعديا إلى
المسلمين. فتجرد لي بحيث حصل لي مرادي وفوقه من تحصيل قراءتي له
في عشرين مجلسا متوالية، لم يتخللها سوى ا لجمعة. ولازمني فيها، وحضر
القراءة كلها يضبطها بنسخة كانت بيده هي أصل ابن ناصر الحافظ يعارض
بها نسخة القراءة، وكانت أصل الشيخ المسمع (1).
و ظهر لي من حسن الاخلاق والمبالغة في التواضع، بحيث إنه كان
إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدا
منا يحملها عنه. وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفا من سوء الادب، فيقول:
لو حملته على رأسي لكان ينبغيب. ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ذكر هذه القراءة ابن ناصر الدين في " الرد الوافر" (ص 1 1 2). وكانت القراءة على
المسند المعمر أبي العباس ا لحجار (ت 730).
769