كتاب العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ويليه الأعلام العلية - ابن عبد الهادي والبزار - ت العمران - ط عالم الفوائد (اسم الجزء: 1)
قطع ما يستغني ببعضه عن كله فيما وضع له، وهو العمامة، فنفع أخاه
المسلم وسد حاجته حينئذ ببعضها، واستغنى هو بباقيها. وهذا هو أكمل
التصرف الصالح والرشد التام، وا لجود المذكور المشهور، والايثار
بالميسور. و ما التبذل الذي فيه نوع من إسقاط المروءة فليس من هذا
القبيل في شيء، بل هذا من المبالغة في التواضع، وعدم روية النفس في
محل الاحتشام، ورفض إرادة المرء تعظيم نفسه بحضرة ا لحاضرين،
وهذه خصال محمودة مطلوبة شرعا وعقلا.
وقد روي مثل ذلك عن سيد الأنام و كمل الخلق مروءة وعقلا وعلما
محمد المصطفى بص: أنه لبس يوما شملة سوداء لها حوالش بيض، وخرج
إلى المسجد، وجماعة من المسلمين حضور، فراه إنسان فقال: يا رسول
الله! أعطني هذه الشملة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع سائلا يسأله، فنزعها
لمجص عن كزيمه المكرم ودفعها إلى ذلك الرجل، وطفق الناس يلومون ذلك
الرجل على ما فعل، وكونه سال النبي! سيو وكان محتاجا إلى ما يلبس، وقد
علم أنه ءلمج! لا يمنع شيئا يساله، فقال الرجل معتذرا إليهم: إني لم اطلبها
لالبسها، لكن لاجعلها لي كفنا عند موتي، قال الراوي: فأمسكها عنده
حتى كانت كفنه. وهذا حديث مشهور قد رواه غير واحد من ا لحفاظ
الثقات (1). وهو من أوضح الدليل على ما قلناه، بل أبلغ في ا لجود
والتواضع وكسر النفس وكرم الاخلاق.
وحدثني من أثق به أن الشيخ - رضي الله عنه - كان مارا يوما في بعض
__________
(1) بنحو القصة اخرجه البخاري (1277) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
779