كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

ووجه دخول الفاء في قوله: (فإن دعوتهم) هو أن المؤمن لا يغل على لزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط بهم، وهو في جملتهم؛ فلا يتأتى منه ذلك.
ويحتمل: أن يكون المراد منه: أنه إذا دخل في جملتهم بالاعتقاد، لم يجد الغل على مفارقتهم؛ فإن الله يكلؤه ويمنعه عن مفارقتهم لإحاطة الدعوة بهم.
ويحتمل: أن يكون تقدير الكلام: (فلا يغلن؛ فإن دعوتهم تخيط من ورائهم) أو يكون تقديره: (وعليه أن يلزم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
وأما وجه التناسب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله عبدا ... الحديث)، وبين قوله (ثلاث لا يغل عليهن ... الحديث) هو أن نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حث من سمع مقالته [35/أ] على أدائها إلى من لم تبلغه- أعلهم أن قلب المسلم لا يغل على هذه الأشياء؛ خشية أن يضنوا بها على ذوى الإحن والترات؛ لما يقع بينهم من التحاسد والتباغض، وبين أن أداء مقالته إلى من لم يسمعها من باب إخلاص العمل لله؛ كالنصيحة للمسلمين، وهو أيضا من الحقوق الواجبة المتعلقة بأحكام لزوم جماعة المسلمين فلا يحل له أن يتهاون به؛ لأنه مخل بالخلال الثالث والله أعلم.
[169] ومنه: حديث جندب بن عبد الله البجلى رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قال في القرآن برأيه فأصاب- فقد أخطأ):
المراد منه: قول لا يكون مؤسسا على علوم الكتاب، ولا مستفادا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يكون قولا يقوله برأيه؛ على حسب ما يقتضيه عقله؛ ويذهب إليه وهله.
وعلم التفسير: علم يؤخذ من أقوال الرجال، ثم ينظر فيه بالمقاييس العربية، ثم يتكلم فيه على حسب ما تقتضيه أصول الدين، ويئول القسم الذي يفتقر منه في بيانه إلى التأويل على وجه يشهد بصحته ظاهر التنزيل؛ فمن لم يستجمع هذه الشرائط، وخاص في بيان كتاب الله بالظن والتخمين؛ فبالحرى أن يكون قوله مهجورا، وسعيه مثبورا، وحسبه من الزاجر: أنه مخطئ عند الإصابة؛ فيا بعد ما بين المجتهد والمتكلف؛ فإن المجتهد مأجور على الخطأ، والمتكلف مأخوذ بالصواب!! والله أعلم.
[170] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المراء في القرآن كفر).
المراء: اسم من المماراة، وهو المجادلة فيما فيه مرية، وقد ذكرنا أصل الكلمة واشتقاقها.
ويحتمل: أنه سماه كفرا؛ لأنه من عمل الكفار، ولأنه ربما يفضى بصاحبه إلى الكفر: إذا عاند صاحبه الذي يماريه على الحق، ثم لابد أن يكون أحد الرجلين محقا، والآخر مبطلا، ومن جعل كتاب الله سناد باطله، فقد باء بالكفر!

الصفحة 109