كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

أراد به علم الوحى، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما شخص ببصره إلى السماء، كوشف باقتراب أجله؛ فاعلم الأمة أنه مقبوض، وأن علوم النبوة، ومعالم الكتاب والسنة، تقبض بقبضه، وتختلس باختلاسه.
[180] ومنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ... الحديث).
وشك ذا خروجا، يوشك- بضم الشين فيهما- وشكا، أي: سرع؛ فهو وشك، ووشك البين: سرعة الفراق، وأوشك فلان يوشك إيشاكا، أي: أسرع السير، ومنه قولهم: (يوشك أن يكون كذا) أي: يقرب، والعامة تقول: يوشك- بفتح الشين- لغة رديئة.
والمعنى: يقرب أن يرحل الناس في طلب العلم؛ يقال: فلان تضرب إليه أكباد الإبل، أي: يرحل إليه في طلب العلم وغيره؛ وفي الحديث: (لا تضرب أكباد المطى إلا إلى ثلاثة مساجد).
ولم أجد أصحاب الغريب تعرضوا لتحقيق هذا القول، وكأن عبارة عن سرعة السير، وإدمان الإدلاج، والتأويب، وقطع الشقة الشاسعة حتى يستقر ذلك بالمطى؛ فتقطع أكبادها من قطع المسافة، وتذوب من طول السفر، وتمسها [39/ب] الأدواء من شدة العطش؛ فتصير كأنما ضربت أكبادها مكان ضربها على السير.
وفي إيراد هذا القول في هذا الموضع تنبيه على أن طلبة العلم أشد الناس حرصا، وأعزهم مطلبا؛ لأن الجد في طلب الشيء إنما يكون على قدر شدة الحرص، وعظم الرغبة، وعزة المطلوب.
وفي إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عالم المدينة- سوى ما فيه من التوقيف على فضله- فائدة أخرى، وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علم أصحاب يتفرقون بعده في أقطار الأرض؛ فينشر كل واحد منهم ما انتهى إليه من علوم الوحى في الأرض التي سكن فيها فيتأهب طلاب العلم للنهوض إلى كل صقع من أصقاع الأرض، ويترحل سكان المدينة إلى تلك البلاد؛ فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - عن حال عالم المدينة؛

الصفحة 118