كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

لئلا تسول لهم أنفسهم الخروج عنها بعلة طلب العلم، بل تستقر فتجمع بين الفضيلتين: طلب العلم، والتلبث بحرم الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في كتابه عن ابن عيينة؛ أنه قال: (هو مالك)، وعن عبد الرزاق؛ أنه قال: (هو العمري الزاهد)؛ فإن ذلك محمول منهما- رحمة الله عليهما- على غلبة الظن دون القطع به فقد كان مالك- رحمه الله عليه- حقيقا بمثل هذا الظن؛ فإنه كان إمام دار الهجرة المرجوع بها إليه في علم الفتيا، وكذلك العمرى الزاهد- رحمه الله- وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان يسيح مدة، وكان من عباد الله الصالحين المشائين بالنصيحة في عباده وبلاده. ولقد بلغنا أنه كان يخرج إلى البادية؛ ليتفقد أحوال أهلها شفقة منه عليهم، وأداء لحق النصيحة فيهم، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعرف الجاهل حقوق ربة، ويبصره بمعالم دينه، وكان يقول لعلماء المدينة: (شغلكم حب الجاه، وطلب الرياسة، عن توفية العلم حقة في إخوانكم من المسلمين؛ تركتموهم في البوادي والفلوات يعمون في أودية الجهل، ومتيهة الضلال) أو كلاما هذا معناه.
قلت: ولو جاز لنا أن نتجاوز الظن في مثل هذه القضية، لكان قولنا: (إنه عمر) أولى من قوله: (إنه العمرى)، مع القطع به؛ فلقد لبث بالمدينة أعواما يجتهد في تمهيد الشرع، وتبيين الأحكام، ولقد شهد له أعلام الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- بالتفوق في العلم حتى قال ابن مسعود- رضي الله عنه-[40/أ] وهو أحد فقهاء الصحابة؛ بل واحدهم، ثم هو من النجباء الفضلاء- يوم استشهد عمر رضي الله عنه: (لقد دفن بموته تسعة أعشار العلم).
[182] ومنه: حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحمل هذا العلم من خلف عدوله ... الحديث).
(من هذا العلم): إشارة إلى جنس العلم الذي انتهى منه - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة، وهو: علم الكتاب والسنة.
و (من كل خلف عدول) أي: من كل قرن يخلف من قبله، وهو بتحريك اللام، وقد رواه بعض من لم يتقنه بسكون اللام؛ فأخطأ فيه وأزال الخبر عن جهته، وقد ذكرنا الفرق بين اللفظين؛ فلا نرى أن نعيده.

الصفحة 119