كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

ومعنى الحديث: أن المولود لو ترك على ما فطر عليه من العقل القويم والوضع المستقيم ولم يعترضه آفة من قبل الأبوين لم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وهذا أصوب التأويلين وأولاهما بالتقديم لوجوه أحدها: ما ذكرناه من تأويل الآية ثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث موسى والخضر: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) وهو حديث صحيح. وثالثها: أن الدين المعتد به من باب الإكساب لأنه يثاب على حسنه ويعاقب على قبيحه ولو كان من حكم الجبلة لم يكن كذلك. ورابعها: أن المولود لو ولد مسلماً لم يجعله الشرع تبعاً لأبويه الكافرين في كفرهما كيف وقد حكم الشرع على ولدان المشركين بحكم المشركين وهو أجنة في بطون أمهاتهم.
قلت:] 11/ب [وقد ذهب بعض السلف إلى أن المراد بالفطرة العهد الذي أخذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم وذلك مفسر في قوله سبحانه (وإذا أخذ ربك) فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له صانعاً ودبراً وإن سماه بغير اسمه والحديث الذي أوردناه في الغلام الذي قتله الخضر يدفع ذلك وقد حملنا قوله - صلى الله عليه وسلم - فأبواه يهودانه وينصرانه في الوجه الذي نصرناه على فساد التربية وآفات النشوء والتقليد، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن المولود يولد على فطرة سليمة لم يجترح بنفسه سيئة تخرجه إلى دين فاسد وإنما يلحقه اسم اليهودية والنصرانية بعلة الجزؤية وحكم التبعية فيجعل ما كسبه والداه ككسبه ألا ترى أنه إذا خرج عن نفهما بالرق إلى من يملكه من المسلمين صار تبعاً له في الإسلام فإن قيل فإذا كان الكفر والإسلام يلحقان به لعلة الجزؤية وحكم التبعية فلم لم يقل فأبواه يسلمانه كما قال يهودانه فالجواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبين أن فساد الدين ضرر يلحق الوالدان من قبل آبائهم وأمهاتهم فذكر الأديان الفاسدة ولم يذكر الدين الصحيح لأن ثبوته للولد بأبويه نفع وصلاح فإن قيل: أمر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا التأويل؛ لأنه لم يلحق بأبويه بحكم الجزؤية فالجواب أن ذلك الأمر مفارق عما نحن فيه؛ لأنه كان من العلوم المكنونة فعرف بعلم خاص أريه الخضر ولو ترك الأمر فيه على هيئة المكنون لم تفته علة الجزؤية ولم يخطأ حكم التبعية فإن قيل أورد أبو عيسى هذا الحديث في كتابه بغير لفظ الفطرة ولفظه (كل مولود يولد على الملة) فإني يوفق بين الفطر والملة على التأويل الذي نصرتموه.
فالجواب أن نقول: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلفظ بهذا اللفظ تارة أخرى وتأويله على هذا التقدير أن المولود يولد على حكم الملة لولا مكان أبويه فأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه. ويحتمل أن الصحابي أو غيره من رواة الحديث تلفظ بذلك ذهاباً إلى رواية الحديث بالمعنى.
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) تروى تنتج على بناء المفعول وعلى هذا البناء يستعمل تقول العرب نتجت الناقة على بناء المجهول تنتج نتاجاً إذا ولدت فهي متوجة كما يقال نفست المرأة فهي منفوسة وعلى هذا فالذي يجعل بهيمة جمعاء حالاً عن البهيمة فلم (....) فيه نظر؛ لأن المثل ضرب للمولود بالبهيمة المولودة وفي تلك] 12/أ [الصيغة البهيمة هي الوالدة المنتوجة وقريب من هذا قول المتنبي:
فكأنما نتجت قياماً تحتهم .... وكأنهم ولدوا على صهواتها
والوجه الأسد والقول الأقوم، أن يجعل بهيمة جمعاء مفعولا ثانيا ويدل على صحة هذا القول قول الشاعر:

الصفحة 55