كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

الحديث)، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وعظ أصحابه ومن حضره من الوفود وغيرهم وذكرهم بأيام الله قام فيهم قياماً وفي حديث أوس بن حذيفة الثقفي رضي الله عنه (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف إلينا بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام). فقوله قام فينا كناية عن التذكير أي خطبنا وذكرنا بخمس كلمات وإنما سلكنا هذا المسلك في تأويله لما عرفناه من سنته في ذلك وإن اقتفينا ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له قال الله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) وقال سبحانه (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) وقوله (بخمس كلمات) أي بخمسة فصول، وهم يطلقون الكلمة ويعنون به الجملة المركبة المفيدة. ولهذا يسمون القصيدة كلمة وإحدى الكلمات منها: (إن الله تعالي لا ينام). والثانية: ولا ينبغي له أن ينام، والثالثة: يخفض القسط ويرفعه، والرابعة: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل. والخامسة: حجابه النور ... إلى آخر الحديث. قوله - صلى الله عليه وسلم -: يخفض القسط ويرفعه، فسر بعضهم القسط في هذا بالميزان، ويسمى الميزان قسطاً لما يقع به من المعدلة في القسمة وهذا أولى القولين بالتقديم لما في حديث أبي هريرة (يرفع الميزان ويخفضه فيجوز أن يكون المراد من رفع الميزان ما يوزن من أرزاق العباد النازلة من عنده وأعمالهم المرتفعة إليه. ويحتمل أنه أشار إلى أن الله كل يوم هو في شأن، وانه يحكم في خلقه بميزان العدل، وبين المعنى بما شوهد من وزن الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا التأويل يناسب الفصل الثاني أعنى قوله: (ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف يجوز عليه ذلك وهو الذي يتصرف أبداً في ملكه بميزان العدل.
قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار) عبارة عن مسارعة ملائكة الله الموكلين بأعمال العباد فيما أمروا به وسرعة خروجهم إلى محال الغرض في مصاعد السموات وقدرتهم على رفع الأعمال في أدنى ساعة؛] 13/أ [؛ لان الليل والنهار يتناوبان لا فاصلة بينهما والعبد يعمل ما دام الليل باقيا، فإذا انقضى أخذ في عمل النهار فمهما رفع إليه عمل الليل قبل أن يأخذ في عمل النهار وخرجت المسارعة في ذلك عن حد اللمحات فضلاً عن الأوقات والساعات هذا إذا جعلنا التقدير في قوله: (قبل عمل النهار) قبل أن يشرع العامل في عمل النهار أو قبل أن يصدر عنه ذلك، فأما إذا جعلنا تقديره قبل أن يرفع إليه عمل النهار، فالمراد منه أن عمل الليل لا يؤخر عن محل العرض حتى ينضم إليه عمل النهار بل يعرض كل واحد منهما على حدة إذ قد] وسد [كل واحد مهما إلى ملائكة يتعاقبون فيكم تعاقب الليل والنهار.
وهذا الوجه وإن كان أيضاً صحيحاً، فإنه لا يبلغ- في بيان عظم شان الله وبيان قوة عباده المكرمين وحسن قيامهم بما أمروا- مبلغ الوجه الأول ولكنهما يتقاربان في الفائدة وذلك أن هذا القول مرتب على قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (ولا ينبغي له أن ينام) أي كيف ينبغي له ذلك والأرزاق نازلة بأمره والأعمال مرفوعة إليه بعلمه لا يخلو عن ذلك ليل ولا نهار.
قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (حجابه النور) أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول ويذهب

الصفحة 57