كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (اسم الجزء: 1)

وقوله سبحانه {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} من ظهورهم بدل من بني آدم وهو بدل البعض من الكل وتقديره: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم، وقد ذهب كثير من أهل العلم في بيان الآية إلى أنه سبحانه أراد بذلك توليد بعضهم من بعض على ممر الزمان واحتجوا على من خالفهم في هذا التأويل بظاهر الآية وقالوا: لو كان المراد به أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لكان من حق القول أن يقول: (وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته) فإن قيل: بيان الآية في الحديث خلاف ما ذهبوا إليه فلهم أن يقولوا إنما يترك ظاهر الآية بالحديث لاسيما في مثل هذه القضية التي هي إخبار عن. 14/ ب الغيب إذا كان الحديث المبين للآية حديثا صحيحا يجب به العلم، [وحديث عمر]- رضي الله عنه- وإن كان حديثا حسنا، فإنه من جملة الآحاد، ثم إن الترمذي رواه في كتابه بإسناده عن مسلم بن يسار، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وذكر أن مسلما لم يسمع من عمر- رضي الله عنه- شيئا، وقال ذكر بعضهم بين عمر وبين مسلم رجلا، فلا يترك ظاهر الكتاب بمثل هذا الحديث، مع ما يمكننا من التوفيق بين الآية والحديث أن نقول: إنما اقتصر في الحديث على ذكر آدم دون الذرية؛ لأن هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن ذكر الفرع، فإن قيل: فقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة) إلى تمام الحديث، وهو حديث صحيح، فلم ذهبتم في حديث عمر- رضي الله عنه- إلى التأويل الذي ذكرتموه؟
فالجواب: أن حديث أبي هريرة لا تعلق له بالآية، ولم يذكر فيه حديث الميثاق والإشهاد، فإنما ذكر فيه أن الله مثل لآدم ذريته، وعرضهم عليه، وهذا غير ذلك.
وقد ذهب أهل هذا التأويل إلى أن المراد: بالإشهاد ما ركبه الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، فقال لهم {ألست بربكم} فكأنهم قالوا: بلى. فذهبوا في معناه إلى أنه تمثيل وتصوير للمعنى. وهذا الباب واسع في كلام العرب، موجود في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الذي ذهبوا إليه في تأويل حديث عمر- رضي الله عنه- تأويل حسن مستقيم، لولا مخالفته لحديث ابن عباس- رضي الله عنه- وهو: ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان- يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا؛ أن يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين).
وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي، فهذا الحديث لا يحتمل من التأويل ما يحتمله

الصفحة 60